وجد كثيرون في مبادرة التقاعد الاختياري فرصة من الأجدى اقتناصها للفكاك من أسر الوظيفة وعبوديتها، وكنت شخصيا أتمنى لو أنّ الأغلبية ممن تركوا وظائفهم لو أنهم أجروا دراسة للمستقبل، ذلك أن نسبة ليست قليلة بينهم مكبلة بالتزامات عائلية أو لدى جهات أخرى كالأقساط الشهرية. لا أظنّ أنّ المتقاعدين الجدد فكروا في الإقدام على مشروع صغير يعوضهم عن الفارق بين رواتبهم السابقة وما يتقاضونه بعد الإحالة إلى التقاعد، إنّ مكافأة نهاية الخدمة لن تكون كافية لأي مشروع مهما كان متناهي الصغر، صحيح أنّ الكثيرين وخصوصا من الخريجين العاطلين بادروا بالمغامرة بفتح مشاريع صغيرة وكان الحظ حليف البعض منهم بينما كان الفشل مصير الآخرين.
الملاحظة الجديرة بالتأمل في سياق معالجتنا أو بالأصح التساؤل يتعلق بالخارجين من الوظيفة هم من الموظفين ذوي الدرجات الدنيا أو المتوسطة بينما من يشغلون الوظائف العليا كالمدراء بقوا في مواقعهم، علما أنّ هؤلاء يحتلون الوظيفة لعقود طويلة، وكنا نفضل لو أن التقاعد الاختياري شملهم لإتاحة الفرصة للدماء الجديدة من الشباب لأخذ فرصتهم وإضفاء الحيوية، ولأنّ الطاقات الشبابية تملك المؤهلات الكافية لإدارة كل المواقع وهو ما يفتقده القابعون في وظائفهم لعقود طويلة حتى ساد تصور لدى الجميع بأنّ هذه الوظائف تحولت إلى أشبه بالأملاك الخاصة ومحرم الاقتراب منها، والمعضلة الكبرى أن المحفزات التي انطوى عليها مشروع التقاعد الاختياري لا يبدو أنّها كانت كافية لهم لترك الوظيفة.
وإذا كانت هناك إيجابيات للتقاعد الاختياري دفعت الآلاف للانعتاق من الوظيفة وهي حقيقة مؤكدة، ففي ذات الوقت هناك مؤشرات سلبية وخطيرة أهمها أنّ الأغلبية لم تزل في عنفوان عطائها وإبداعها وبالتالي فإنّ هذه الكفاءات ستشكل خسارة للوطن. وإذا لم يرد في أذهان الأغلبية أي مشروع - كما أسلفت الإشارة - فانّه ليس منطقيا ولا مقبولا أن يكون همهم الأوحد منصرفا إلى “الراحة” أو ما يصفه البعض بالحرية. إنّ الوصف الأدق لما هم مقبلون عليه هو حياة البلادة والفراغ وما تفضي إليه من أمراض كالاكتئاب وغيره.