المغفور له بإذن الله تعالى سمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة كان، ولا يزال، يوصف عن حق وحقيقة، بأنه أمير التواضع والكرم والوفاء والأخلاق الرفيعة الفاضلة، ولم يَحِد عن هذا المنحى أو يقل عن ذلك القدر خلفه الصالح صاحب الجلالة الملك المفدى، وشقيقه الوفي صاحب السمو الملكي رئيس الوزراء الموقر، وحفيده البار صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمين.
ومن بين المناقب العديدة التي تحلى بها سمو الشيخ عيسى (طيب الله ثراه) الوفاء والعرفان لكل من خدم وأعطى وضحى من أجل البحرين من الأحياء والأموات.
وقد رأيت بعيني وسمعت كما سمع الكثيرون غيري لمرات عدة، وفي مناسبات متفرقة، المغفور له بإذن الله تعالى، في مختلف لقاءاته واجتماعاته، وهو يُثني ويُشيد ويَترحَّم ويَتذكر بالتقدير والإكبار مواقف وأفعال وإنجازات رجال البحرين ممن تفانوا وأفنوا حياتهم بكل إخلاص في مختلف المراكز والمواقع، ومن شرائح وأطياف المجتمع كافة، وكانت ثمة أسماء عدة تتكرر بانتظام لا أستطيع سردها هنا لضيق المساحة وخشية أن أبخس أحدا حقه أو أن أغفل أو تخونني الذاكرة عن ذكر أي منهم.
ولأن حسن الطالع شاء أن يضعني في موقع ومسافة قريبة من الأمير خليفة بن سلمان رئيس الوزراء الموقر، فقد وجدت، بشكل مباشر وبصورة واضحة، الشيء ذاته يتكرر، ورأيت في سموه شخصا تجلت فيه صفات الوفاء، وتنضح من وجدانه مكارم وشمائل التقدير والعرفان لكل إنسان أعطى وساهم في بناء صروح هذا الوطن، وهنا أيضًا لا ينفك الأمير خليفة عن ذكر أسماء محفورة في ذاكرته وقلبه، وأود في هذه الوقفة القصيرة أن أشير إلى واحد ممن يتكرر ذكرهم على لسان خليفة بن سلمان، وهو المرحوم السيد محمود بن السيد أحمد العلوي؛ لما لعلاقة هذين الرجلين من دلالات ومعانٍ عميقة من بينها الابتعاد والنفور من الاصطفاف المذهبي المزعوم.
التحق السيد محمود العلوي بالجهاز الحكومي في وظيفة بسيطة، ثم أصبح مديرًا لدائرة الحسابات بحكومة البحرين وأحد السواعد المساندة التي كان يعتمد عليها ويثق بها حاكم البحرين آنذاك المغفور له بإذن الله تعالى صاحب العظمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، ولمَّا نالت البحرين استقلالها أصبح السيد محمود العلوي وزيرًا للمالية إلى أن انتقل إلى جوار ربه.
وعندما يتحدث الأمير خليفة عن السيد محمود، فإنّ حديثه ينبع من القلب وتنعكس أحاسيسه في نظراته وتعابير وجهه التي تفصح عن كم هائل من المودة والتقدير التي يكنها سموه لهذا الرجل، فهو يؤكد دائمًا أنّ السيد محمود كان شخصية متميزه فريدة من نوعها، كان معروفًا بالدقة والانضباط والالتزام ومتحليًا بأسمى قيم الإخلاص والتفاني والولاء وروح المسؤولية، كان شديد الحرص على مصلحة البلاد وأهلها ومحل ثقة الجميع.
يقول الأمير خليفة لقد كان السيد محمود نزيهًا أمينًا مخلصًا ومحبًا للبحرين وأهلها، وسنظل متشبثين بذكراه العطرة ولا يمكن أن ننسى عطاءه وتفانيه وإخلاصه.
هذا الموقف النبيل من قبل الأمير خليفة بن سلمان تجاه السيد محمود يعكس أروع صور الأريحية والتقدير والوفاء، تلك القيم التي اختفت من مفردات وقواميس السياسيين في عصرنا الحاضر بالذات، ولم تعد تحكم العلاقات فيما بينهم، ولم يعد في أدبيات السياسة الآن شيء اسمه الالتزام أو الوفاء، واستبدلت هذه القيم بقواعد ترتكز على مبادئ الأنانية والمصلحة الذاتية والتنكر للأصدقاء والحلفاء ورفقاء الدرب والتضحية بهم عند الضرورة أو إذا لزم الأمر، كما أنّ العلاقات الإنسانية في السياسة وبين السياسيين أصبحت كبعض السلع الاستهلاكية لها “مدة صلاحية” تنتهي بانتهاء المصلحة، وفي السياسة بات كل فرد أو مسؤول كحصان السباق له شوط يؤديه ثم يخرج من الحلبة بعد أدائه، انطلاقًا من القاعدة التي تقول؛ لكل حصان شوط (A horse for a course).
وثمة مبادئ وقواعد قاسية صارت الآن راسخة وثابتة في الممارسات السياسية وفي علم السياسة والإدارة، وتزداد رسوخًا وثباتًا مع مرور الوقت، وهي تدور حول ضرورة تغليب المصلحة على أية اعتبارات أخرى أو أية قيم أخلاقية أو علاقات إنسانية.
فقد تعلمنا وعلمتنا الأيام وقال لنا السياسي الإنجليزي المحنك الراحل ونستون تشرشل، بكل وضوح، إن في السياسة، من حيث المبدأ والتطبيق، ليست هناك صداقات دائمة ولا عداوات دائمة إنما هناك مصالح دائمة، ونحن نرى اليوم أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على سبيل المثال لا الحصر، هو من أشطر وأنبه طلاب هذه المدرسة بل من أبرع أساتذتها.
إلا أن ملوك وحكام وأمراء آل خليفة الكرام بشكل خاص، والأسر الأخرى المالكة والحاكمة في الدول العربية في الخليج العربي عمومًا، لا ينتمون إلى صفوف هذه المدرسة ولا يؤمنون بمبادئها، ولذلك فإنهم يعانون ويجدون صعوبة في تقبل والتفاعل والتأقلم مع تقلبات السياسيين والسياسات الدولية التي لم تعد تمت إلى قيم الوفاء والالتزام والإخلاص بِصلة.