العدد 2019
الجمعة 25 أبريل 2014
banner
أثر الأمراض في انحطاط التاريخ خالص جلبي
خالص جلبي
الجمعة 25 أبريل 2014

من أغرب ما اطلعت عليه عن تفسير التاريخ “أثر الأمراض في انحطاط التاريخ” وهو أمر لا يلتفت إليه أحد عادة وهو الذي هدّ ظهر الدول والامبراطوريات، وانتبه إليه ابن خلدون حينما تحدث عن الطاعون الجارف الذي ذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن، بل كأنه يرى هذا التفسير سببا في سقوط الحضارة الإسلامية فينهي الفقرة بكلامه وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها. وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة. لقد كان عبقريا في التقاط هذه اللحظة التاريخية ليرى من خلالها مصير العالم الإسلامي في قرون وهي لمعة في فضاء الفكر يندر أن يراها أحد واعترف ابن خلدون شخصيا بهذا الشيء فسماها الحكم القريبة المحجوبة.
وهناك بعثة علمية كندية استعدت لمدة خمس سنوات للذهاب إلى القطب الشمالي لبحث جثث خمسة من العمال النرويجيين قضوا حتفهم بجائحة الأنفلونزا عام 1918م ونصبت خيمة عازلة كليا خوفا من خروج الفيروسات من مرقدها فتقضي على البشر من جديد. وكان ما عرف بالجريب الإسباني يومها قد قضى على عدد من البشر في أربعة أشهر أكثر مما أفنت الحرب العالمية في أربع سنوات فمات من الناس 25 مليون نسمة.
وأهمية هذه الدراسة أن الأمراض تغير مجرى التاريخ فأثينا انتهت مع مرض اللويموس عام 430 قبل الميلاد (ربما الطاعون) وقضت الجائحة على العصر الذهبي لها. والملاريا حولت روما إلى خرائب.
وفي عام 1348 وما تلاه مات بالطاعون في أوروبا 25 مليونا ولم يكن عدد سكانها يتجاوز المئة مليون. وهلك 90 % من سكان الأميركتين بسبب الجدري أكثر من ذبح الغزاة الإسبان.
والعالم اليوم مهدد بمرض الإيدز وعودة الجراثيم القاتلة التي ظننا أنها انتهت؛ فالسل يزحف، والملاريا تعند، وتبرز إلى السطح جراثيم ملعونة لا ينفع فيها أي صاد حيوي، وتخصص أميركا خمسة مليارات استعدادا للقاح الجدري بعد أن ودعته عام 1972م.
“وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر”.
نحن ندرك العالم بخمس منافذ: “تهيج الوعي” و”استيعاب الحواسط و”عمل الفكر” و”تخزين الذاكرة” و”اللغة” التي بها نتخاطب. الحواس مضللة، واللغة مشوشة غير دقيقة، والفكر ملوث بالعادات الخاطئة أو ما سماها فرانسيس بيكون الأوهام الأربعة من المسرح والقبيلة والسوق والكهف.
أما الكتابة فهي على السطح تماما، ولا تروي حقيقة المشاعر، ولكن لا مفر من نقل الأفكار عبر قناتها؛ وهكذا فهناك ثلاث طبقات؛ الأعمق هي السيمياء والطفل يتعلمها قبل النطق فيقرأ الغضب في وجه والديه قبل أن يفهم الكلمات، لتأتي فوقها اللغة المنطوقة وهي بلحنها تعبر جيدا. فنحن هنا أمام ثلاثة أنواع من التعبير: الكتابة على الورق وأعمق منها تعبيرا النطق وأما السيمياء فلا تخيب.
نحن إذا نعيش في ظلمات بعضها فوق بعض ويظن البعض أنهم أمسكوا بالحقيقة النهائية وهم لم يقبضوا إلا تعباً وباطلاً وقبض الريح كما قال الجامعة داود.
نحن مطوقون إذاً بثلاث جدران من الحواس واللغة والثقافة. فأما الحواس فهي بدورها مشوشة ثلاث مرات: العتبة والفرق والطيف فلا ترى أعيننا إلا إضاءة محددة ولا تسمع آذاننا إلا همسا بعينه. وأما اللغة فهي مضللة أيضاً بثلاث: التعميم والحذف والتشويه، وكلها أمور اشتغلت عليها البرمجة اللغوية العصبية.. وأما الثقافة فهي تخلق الأوهام بقوى عاتية أربع كما ذكرنا عن طيف الأوهام عند بيكون: أوهام القبيلة وأوهام السوق وأوهام المسرح وأوهام الكهف.
وخلاصة هذا الكلام أن كل نظرية تتكسر عند قدمي الإنسان ويبقى عصيا على الفهم. ولا يعني هذا أننا لا نكتشف أثرا من الحقيقة ولكنها نسبية ومشوهة ومضللة. وتتعاون التفسيرات المختلفة في إيجاد صيغة مركبة للوجود وينحسر التفسير الأحادي. سنة الله في خلقه.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية