العدد 2179
الخميس 02 أكتوبر 2014
banner
الديمقراطية بـ “المشاطعة” غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الخميس 02 أكتوبر 2014

دخل أستاذ الفلسفة على طلبة صفّ ليس هو معلمهم، بل كان يسدّ فراغ غياب المعلم، فطلب من الطلبة الهدوء، وجلس يقرأ، ولكن الطلبة بدأوا في الحديث، وارتفعت الأصوات، فطلب إليهم الهدوء ثانية، وثالثة، حتى نفد صبره فاختار أحد الطلبة البارزين في إحداث الفوضى، فأوقفه وسأله سؤالاً مباشراً: “ما فلسفتك في الحياة؟”، فسكت الطالب، أعاد المعلم السؤال مرة أخرى بشكل أشدّ، فزادت حيرة الطالب وارتباكه، فما كان من المعلم إلا أن سلخ الطالب “كفاً” رنّت له أرجاء الفصل، مكرراً السؤال للمرة الأخيرة، فقال الطالب وهو متألم واضع يده على موقع الكف: “أستاد.. أنا ما عندي فلسفة”، فقال لهم المعلم: “إن لم تكن لديك فلسفة، فهذه فلسفة بحد ذاتها”.
قبل الاسترسال أود التأكيد أن الحادثة وقعت بالفعل، ولكن ليس لها علاقة بالفيديو الذي انتشر وقيل إنه حدث في البحرين، ونفته وزارة التربية والتعليم لاحقاً، بل هي حادثة جرت في الثمانينات عندما كان الهاتف النقال لا يتوافر إلا لمن لديهم سيولة عالية. والحادثة، على ما احتوته من ألم الكفّ ولا منطقيته أو “فلسفته”، فإن المغزى منها هو الإشارة إلى موضوع الحديث عن المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها، في ظل ممارسة العمل السياسي، وهو الأمر الذي يجري الحديث عنه بكثافة هذه الأيام، وسيزداد كثافة، وربما “كسافة” في الأيام المقبلة كلما اقتربنا أكثر من الاستحقاقات الانتخابية البلدية والنيابية.
فالانتخابات، بشكل عام، ليست إلا وجهاً من وجوه الديمقراطية، ونراها في دولنا العربية و”العالمثالثية” من الأمور البالغة الأهمية في حد ذاتها، ولكن في الدول التي تعمّقت فيها الديمقراطية يرونها جزءاً مفصلياً من أجزاء الحياة الديمقراطية، فهي لا تعني تداولية اعتيادية وطبيعية للأطراف المتداولة للسلطة. فالديمقراطية هي فعل وممارسة يومية تحدث باستمرار تخترق جميع مناحي الحياة في جمعيات النفع العام، كما في الجمعيات المهنية، وفي المدارس، كما في اختيار رؤساء الأقسام ومن فوقهم في بعض الجامعات، وفي مجالس الأحياء كما هي في الشؤون البلدية، وهي هكذا في اتخاذ القرارات، والسماح بحرية تداول الرأي، حيث تكون هذه الحرية من أهم أوجه الديمقراطية وتعزيز النقاشات في الفضاءات العامة حيث يجري تشكيل الأفكار.
وهي (أي الديمقراطية) ليست ناصعة أيضاً حتى في الدول التي تأصلت فيها، فهناك بعض الانتقادات عليها، وهناك حظر لبعض الأفكار، كما نجحت قوى الضغط اليهودية في تحريم إنكار المحرقة (الهولوكوست) في دول عديدة ومهمة على مستوى العالم... يا لهم من أفذاذ!
والديمقراطية أيضاً ليست الشكل الأمثل والأفضل في رأي عدد لا بأس به من المفكرين، ولكنهم يقرّون بأنها – ومع ذلك – أفضل ما توصلت إليه البشرية إلى الآن، وحتى تطوّر البشرية الديمقراطية بأشكالها الحالية، أو تأتي ببديل لها، فإن القائم حالياً على ما فيه من قصور هو أفضل الممارسات الممكنة.
الديمقراطية الممارَسة، تتحول إلى فكر، وإلى جزء من يوميات الإنسان الكائن في وسط ديمقراطي، لا يمكنه أن يتصرف بخلاف الديمقراطية، وإن أراد فعل ذلك ثارت ثائرة الآخرين المتشبعين بالفكر الديمقراطي، ويودّون لو يورّثوه لمن يأتون بعدهم لأنه الحد الأدنى الضامن لكرامتهم وصيانة حقوقهم. آخذين بمعنى الحديث الشريف “لا تجتمع أمتي على ضلالة”، على الرغم مما ورد في تضعيف نسبة الحديث إلى الرسول (ص)، إلا أن معناه صحيح، فالأمة العفيّة الصحيحة القوة، ذات النسب العالية من التعليم والوعي، والمتأصلة في التجارب، لا يمكنها أن تغفل كل هذه المكونات وتجتمع على ما يُخرجها عن سياق التاريخ، إنها (الديمقراطية) مناخ عام يظلل البلد الذي يتخذها آلية لتنفسه وتعاطيه مع كل الأمور. وإذ لا يخلو بلد من متلاعبين ومستفيدين من الثغرات، فإن النظام الديمقراطي الذي يضمن حرية السؤال والمساءلة والمكاشفة قادر على تنقية الثوب الوطني من الدنس، ويبقى العيب في الأفراد وفي التصرفات الشخصية، والجشع، وكل الرزايا، ولكن العيب لا يُنسب إلى الديمقراطيات كما قد يحاول البعض أن يسوِّق.
الديمقراطية ليست “يوماً” للصناديق والأوراق والمقترعين والمترشحين، وليست أسابيع للخيام والمقرات الانتخابية والحضور والمنتفعين والموائد، وهي ليست مادة تعلم للتلاميذ منفصلة عن ممارسة المدرسة والمعلمين معهم بدءاً قبل تعميمها على الدوائر المجتمعية الأخرى، بل هي عملية يومية مستمرة ومتطورة، أو تتطلع للتطور. والمشاركة في الانتخابات والتصويت والاصطفاف طوابير في “العرس الديمقراطي” ممارسة ديمقراطية حقيقية ومحترمة.
إن المشاركة من قبيل “المناصرة” أو الإيمان بالمترشح، أو بالجمعية السياسية، أو بأداء مجلس النواب، أو بالاستمرار في النهج الذي تسير عليه البلاد، فهي مشاركة ديمقراطية. وعلى الكفة الأخرى، فإن عدم الإدلاء بالصوت، إما بسبب التشبع أو الإهمال أو بسبب الإحساس بعدم الجدوى، أو بعد القناعة بالمترشحين. وإذا أخذناها من الناحية الأخلاقية، فإن “الصوت أمانة” كما يقال، فإن لم يكن الناخب على قناعة بتأمين صوته ليس لفلان ولا لعلان، لأنه غير مقتنع ببرامجهما الانتخابية، أو لأنه غير مقتنع بالأداء السابق لبعض من خبرهم على الكراسي التمثيلية، فليس من الأمانة أن يؤشر فقط على أي اسم (والسلام) وهو مغمض العينين، ويمكنكم سؤال الطالب الذي لا فلسفة له في الحياة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية