العدد 2169
الإثنين 22 سبتمبر 2014
banner
فضاءات للحوارات الوطنية غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الإثنين 22 سبتمبر 2014

إذ لم تسعفني الظروف لأحضر اللقاء الذي عقده صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد نائب القائد الأعلى النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء الأسبوع الماضي مع وجوه من مختلف أطياف البحرينيين، إلا أن متابعة هذا الشأن الجليل من الشؤون البحرينية العالقة منذ مدة من الزمن، والمؤمل أن تكون فاتحة للخروج من هذه الأزمة، كانت هاجساً مهماً بالنسبة لكل من كان في هذا اللقاء الذي ضم حوالي 150 فرداً، ومن ورائهم مئات الآلاف من الأفراد البحرينيين، سواء كانوا منتمين سياسياً أم غير منتمين، فالمواطنة لا تعني الانتماء السياسي بقدر ما تعني الانتماء الوطني بالدرجة الأولى.
ومع كثرة ما تم طرحه بعيد هذا اللقاء، ومع دخول البعض في المسألة بشكل مبالغ فيه، فإن أساس الموضوع سيبقى كما هو، وهو: أهمية ومكانة الحوارات الوطنية ومدى قربها أو بعدها عن المضي قدماً في حل المسائل الوطنية.
ربما لا نسمع مصطلح “الحوار الوطني” في الوطن العربي، إلا وعلمنا أن هناك تورّماً واحتقاناً سياسياً خانقاً يحتاج إلى تنفيس من خلال الحوار، بعض الحوارات تأتي لتفرغ شحنات قبل أن تنفجر، وبعضها تأتي بعد الانفجار نفسه، في محاولة لطي صفحة الماضي والبدء من جديد.
الحوار أمر يختلف تماماً عن الإملاءات التي يفرضها الطرف الأقوى، أو الطرف المنتصر، إنه تبادل وجهات النظر بين أطراف متساوية، يعرف كل طرف مصادر قوته وضعفه، كما يعرف كل طرف مصادر قوة الطرف الآخر وضعفه، في الوقت الذي على الجميع أن يعرف أو يخمّن عواقب فشل الحوار الوطني أينما كان. ومن هنا فإن إنجاح الحوارات الوطنية لا يعني الهيمنة والاستحواذ، ولا يعني كذلك التسليم والتراجع فهناك دائماً مؤشرات للموازين تصل إلى درجات “معقولة” من الأخذ والرد، والفوز بنقاط وخسارة أخرى، وإدراك “النصر” في بعضها، وخسارة بعضها الآخر، وكذلك تعليق نقاط أخرى صعبة المنال، إلى أن تصبح ممكنة في جولات أخرى. فلطالما علمتنا التجارب الإنسانية أن الاستحواذ الكامل من أي طرف، وإن كان قوياً أو منتصراً، سيولّد غداً – طال الزمان أم قصر – مشكلة أعمق لدى المسلوب اليوم. فالزعيم النازي أدولف هتلر لم يظهر بهذا العنف، وهذه القوة والقسوة والسيطرة، إلا بعد أن رأى ألمانيا تذلّ من قبل الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، وأن كرامتها قد مُرِّغت في الوحل. ومن هنا فإن التوافقات تعني مرحلة ما بعد التعنت والتصلب والتشدد الذي يمارسه كل طرف في البداية، كما هو الوضع (مع بُعد التشبيه) للمساومات التي تجري يومياً بين البائع والمشتري لأي البضائع سعراً وصولاً للصفقات التجارية المليونية، فكل طرف يتمسك في البداية برأيه وبالسعر الذي يدّعي أنه لن يتنازل عنه، حتى يبدأ الطرفان يقتربان من بعضهما ببعض التنازلات التي لا تمسّ جوهر الموضوع نفسه، أو ربما تمسه ولكن لا تكسره.
وقد خاضت البحرين سلسلة من الحوارات الوطنية بعد انتهاء أحداث فبراير/مارس 2011، حدث خلالها بعض التقدم، وبدأت الأمواج تظهر سفينة الحوار وتخفيها بين الفترة والأخرى، بعض الأنباء كانت تحمل البشارات، وبعضها الآخر كانت تدنينا من اليأس أكثر وأكثر. ومع كل ذلك، ومع التصريحات التي تضاربت طوال هذه الفترة، فإن مجرد إدارة حوار وطني كان يعني أن الحوار يعدّ الخطوة الأصحّ التي عرفتها البشرية، ولم تعرفها أية كائنات أخرى تعتمد منطق القوة البدنية، بدلاً من التفهم والإقناع والنظر إلى أبعد من الأمتار القليلة التي تصل إليها العيون المجردة في الغرف المغلقة.
ولكننا نعلم، ونتعلم، أن الحوار الوطني البحريني اليوم لن يكون آخر المطاف، فمادامت الأرض تدور، فإنها ستحمل معها الكثير من الأحداث التي لم تتضمنها حوارات اليوم، والتي سيسعى إليها طرف، وسيتأفف منها طرف، وسيحضّ عليها طرف، وسيحرّض ضدها طرف، وهكذا، فإننا في هذا البلد الصغير، يمكننا التقدم على هذه الحوارات بما هو أجدى وأكثر نفعاً وأقل ضرراً.
إننا اليوم على بعد أكثر من قرن من الزمان على بدء الوعي السياسي في البحرين، مع كل ما صادف هذا الوعي من مراحل مختلفة في نموّه وتقدمه، ومع كل ما شاب التجارب السابقة من معوقات يرجع بعضها للاستعمار البريطاني، وبعضها إلى المطالب الفئوية، سواء كانت مطالب طبقات اجتماعية، أو مذهبية، أو مناطقية أو غيرها، وهذا أمر مفهوم في بدايات تشكل الوعي السياسي في أي مجتمع، ولكن من خلال هذه التجربة الطويلة كان من المفترض إيجاد قواعد وفضاءات يجري فيها حوار لا علاقة له بالشؤون الوقتية، ولا يُدعى له إن لاحت في الأفق أزمة، أو بعيد انقشاع دخان مشكلة أو ربما مصيبة. لأن الداخلين في حوارات في هذه الظروف لن يكونوا مهيئين من تلقاء أنفسهم، ولا من قبل قواعدهم ومرجعياتهم الشعبية أو التنظيمية، لأن يكونوا مرنين، فلا يمكن أن يُطلب من الخاسر ولا من الرابح في أية معركة (معاذ الله) أن يكون عقلانياً ومنطقياً وواقعياً ومتوازناً. إنها مسألة أقرب ما تكون إلى القول المأثور “الوقاية خير من العلاج”، لما للعلاج من آثار جانبية، خصوصاً إن صعب المرض واستفحل، وربما يكون علاجاً ناجعاً، وربما يكون وقته قد فات.
إن أردنا أن نتعلم من تجاربنا، فعلينا أن ندفع بالحريات وندافع عنها، حتى تجري صناعة منابر لحوارات مستمرة تخفف من حدة المشكلات، وتقرب وجهات النظر، وتزيل موجبات الاحتقان بشكل مستمر، لأن هناك من ينفخ فيها بشكل مستمر. إنه عمل متواصل ودائم للتوافق اليومي بدءاً من أصغر التفاصيل، حتى نضطر في كل عقد أو عقدين لأن نعيد التجربة ونورث المشاكل لمن سيأتي بعدنا.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية