العدد 2011
الخميس 17 أبريل 2014
banner
كيف نفهم القوة الناعمة؟ غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الخميس 17 أبريل 2014

في مؤتمره الإقليمي الرابع الذي أقيم مؤخراً في العاصمة اللبنانية بيروت، طرح مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية التابع للجيش اللبناني عنواناً مهماً في ظل المتغيرات السياسية التي تشهدها المنطقة العربية بأسرها، وهو “الستاتيكو المرتقب في الشرق الأوسط في ضوء المتغيرات والتسويات المحتملة: شرعية أنظمة الحكم وركائز النظام الإقليمي الجديد”، وهو المؤتمر الذي استقطب مفكرين وباحثين ومهتمين عرباً وأجانب، لما لهذا العنوان المكتنز بالغنى من إغراء، خصوصاً بعد مرور بضع سنوات على “الربيع العربي” في بعض البلدان العربية، ومن المهم ملاحظة أوضاعها، وأوضاع بلاد أخرى في المنطقة نفسها، ما مسّها نَصَبٌ ولا مسّها لغوب جراء هذه الأوضاع المستجدة، ليس على أجهزة نظام ما، ولكن أيضاً مستجدة على الجماهير من جهة، وعلى المجتمع الدولي لريثما يستوعب كيفية التعامل مع التغيرات التي حدثت في هذه المجمتعات.
وهذا دور محمود للجيش الذي يفتح نوافذه ونوافذ للآخرين للإطلال المتبادل على بعضنا البعض، ومناقشة (وليس معالجة) عدد من القضايا الأكثر أهمية في المنطقة لتكوين وعي متقارب فيها.
والدول العربية في دولة مجلس التعاون (امتداداً للمقال السابق)، تقع في مكان الأهمية في الوطن العربي، على الرغم من السياقات المتناقضة التي يتم طرح “المسألة الخليجية” فيها بين متحامل، كما هو الوضع بالنسبة لعدد من المشاركين من الدول العربية الأخرى، وبين منافح ومدافع، كما هو الحال بالنسبة لعدد من الخليجيين الذين يرمون إلى الذهاب إلى أقاصي الصورة المثالية لهذه المنظومة بغية تصحيح ما يجري طرحه في الجانب القصيّ الآخر. وبين هؤلاء وهؤلاء يوجد من يشرح الوضع السياسي الخليجي بشكل أكثر علمية واتزاناً، وهذه هي طبيعة الأمور.
في المحور الخاص بمجلس التعاون الخليجي، أشار مشاركون إلى أهمية أن تستخدم دول الخليج العربية ما لديها من قوة مالية لتركن إليها، كـ “قوّة ناعمة” يمكن من خلالها أن تؤدي دوراً أكثر تأثيراً على المستوى العربي والعالمي. غير أن القوة الناعمة Soft Power كما عرّفها مبتدع هذا المصطلح، وهو الأميركي جوزيف ناي، لا تأتي بمعزل عن القوة الصلبة أو الخشنة Hard Power، إذ إن القوة الناعمة ما هي إلا الوجه الآخر للقوة الصلبة، التي يظهرها المتمكن والواثق من قدراتها الذاتية على الردع والتهديد والترهيب. القوة الناعمة هي تلك التي يواجهك بها خصمك القوي وهو يمسك بيده الهراوة من وراء ظهره، يخفيها ولكنك تعلم بوجودها، وبقدرته على استخدامها. وهذا يعني أن القوة الناعمة وحدها (بما فيها من اقتصاد وتكنولوجيا، ومخترعات، وإعلام، وبرامج، وثقافة، وترويج... الخ) تعني نوعاً من الهدر إن لم تكن مشفوعة بقوة عسكرية تبعد شبح الاستخفاف بنعومة القوة، وتجعل الندّية عنواناً لأية محاورات على مستوى عال. ومن هنا، فإن التشريق والتغريب بوجود قوة صلبة حقيقية، حتى مع اجتماع أسباب القوة معاً في دول مجلس التعاون، سوف لن يخلق تكافؤاً بين وجهي القوة، ناعمها وصلبها، إذ إن الجانب الناعم هنا متقدم على الصلب بمراحل بحيث لا يمكن أن تكون القوة الصلبة داعماً حقيقياً للقوة الاقتصادية للمنطقة.
وتأتي القوة الناعمة الخليجية من جهة أخرى في تمويل أهم المؤسسات الإعلامية والإخبارية في المنطقة. وإن ركزنا على الجانب الإخباري بصفته يعمل على تشكيل تلقي الجمهور العربي والخليجي لقضاياه، و”يعينه” على فهم ما يجري، وتوجيه الجمهور إلى الوجهة التي يرغب فيها ممولو هذه القنوات، فإن القناتين اللتين تجريان كحصاني رهان هما: “الجزيرة” و”العربية” وهما الأبرز عربياً من دون منازع، وعليها أجريت دراسات، وكُتبت كتب في تعاطيهما مع القصص الإخبارية. ومن دون تفصيل وإطالة، فأي متتبع عربي، وإن لم يكن حصيفاً، يعلم خطوط التحرير في هاتين القناتين، ما الذي ترميان إليه، ومن يقف وراء تمويل كلٍّ منهما. هذا إلى جانب الصحف والمواقع الإخبارية الإلكترونية. إذاً، ففي محيط إقليمي لا تزيد مساحته عن 2411 كيلومترا مربعا، وفي ظل كل المشتركات التي هي أكثر عمقاً وقرباً عن تلك التي تجمعنا مع غيرنا في الوطن العربي، فلا يمكن الحديث مع “الخارج” و”الآخر” بلغة واحدة، ولا ننطلق من رؤية إعلامية واحدة، أو على الأقل متقاربة إلى حد كبير، والجوار بين البلدين، إنه الجار الجنب، ومع هذا فإننا نفرّط في واحد من أسباب القوة الناعمة التي قد أطاحت بالأسوار، الواحد تلو الآخر، لمن أحسن استعمالها، ألا وهي قوة الإعلام بأشكالها الفاحشة الثراء.
ويأتي الجانب الديمغرافي (السكاني) ليضيف إلى الخلل الحادث خللاً آخر لا يقل ضراوة وإثارة للكثير من النقاشات والاختلافات، على الرغم من الاتفاق على خطورة الخلل السكاني الراهن في المنطقة.
فغالبية دول المجلس (أربع من ست دول) يغلب فيها العنصر غير المواطن على العنصر المواطن، إذ تبلغ نسبة المواطنين في الإمارات العربية المتحدة 20.4 % (2006)، ونسبة المواطنين في البحرين 48.9 % (2011)، ونسبة المواطنين في الكويت 31.6 % (2008)، أما قطر فنسبة المواطنين فيها تصل إلى 12 % من نسبة السكان وهي أعلى نسبة غير مواطنين إلى مواطنين في العالم.
وفي المقابل، فإن نسبة المواطنين إلى غير المواطنين في المملكة العربية السعودية 68.9 % (2010)، وفي سلطنة عمان 76 % (2008)[1]. وهذا الخلل السكاني في المنطقة لا يدع مجالاً كبيراً للمناورة مع الدول الأخرى، في المقابل، فإنه مصدر تهديد أمني لدول المنطقة في عقر دارها. صحيح أنه يمكن ممارسة قوة ضغط ناعمة على الدول المصدّرة للعمالة الرخيصة غير المؤهلة إلينا بما يخلق أزمة عمل وانخفاض التحويلات الخارجية في تلك البلدان، ولكننا أيضاً لا يمكن أن نواصل حياتنا كما هي الآن إن امتنعت الدول المصدّرة للعمالة الرخيصة وغير الماهرة عن تصدير عمالتها. المصيبة الأكبر، والدنيا قُلّب، ماذا لو أوعزت أكثر من بلد لتحريك قواه البشرية في هذه المجتمعات؟!
الوصول إلى القوة الناعمة مطلب استراتيجي مهم لدول التعاون، والدرب إليها ليس قصيراً ولا معبّداً ولا مزيّناً ولا يحتاج التراخي والتؤدة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية