في زمنٍ لم تعد فيه الحرب محصورة في أزيز الرصاص ودويّ الصواريخ، بل تسللت إلى الكودات البرمجية والخوادم والموجات الكهرومغناطيسية، تتجلى الحرب السيبرانية بين إيران وإسرائيل كأحد أكثر فصول الصراع تعقيدًا وخطورة. فبينما كانت العيون شاخصة نحو سماء تل أبيب وأجواء أصفهان، كانت معارك شرسة تُخاض بصمت داخل غرف مظلمة، على شاشاتٍ ترصد وتخترق وتدمّر بلا طلقة واحدة.
ساحة حرب بديلة
منذ سنوات، تخوض طهران وتل أبيب “حرب ظل” إلكترونية، اشتدت ضراوتها منذ الضربة الإلكترونية الشهيرة لفيروس “ستوكسنت” في 2010. لكن التصعيد العسكري المباشر في يونيو 2025، سرّع من وتيرة هذه الحرب الرقمية، لتتحوّل إلى جبهة مستقلة وموازية للمعارك الميدانية. لم تعد الهجمات السيبرانية ترفًا استخباراتيًا، بل أصبحت أداة تكميلية - وأحيانًا تمهيدية - للضربات العسكرية التقليدية.
تفوّق دقيق
تبدو إسرائيل وكأنها تمارس فناً سيبرانياً عالي الدقة، مستندة إلى أدوات متقدمة وقدرات نخبوية، أبرزها وحدات مثل “8200” وشركات متخصصة كـ NSO. في يونيو وحده، شنّت تل أبيب سلسلة هجمات استهدفت شبكات الطاقة، الاتصالات، ومنظومات الدفاع الجوي الإيرانية. اللافت ليس فقط نوعية الأهداف، بل التوقيت: اختراق الرادارات وتعطيلها جاء متزامنًا مع غارات جوية على منشآت نووية في أصفهان، في نموذج ناضج لـ”الحرب الهجينة” التي تدمج الرقمي بالفيزيائي، والبرمجيات بالقذائف.
برمجيات متطورة اختُرقت بها أنظمة SCADA الصناعية، وهجمات DDoS حرمت الوزارات الإيرانية من الوصول إلى بياناتها الحيوية، وربما، وفق تكهنات بعض المحللين، استخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد الثغرات الأمنية بشكل لحظي. إنها حرب ذكاء قبل أن تكون حرب قوة.
فوضى متقنة
في الجهة المقابلة، لا تقل طهران دهاءً، لكنها تتبنى فلسفة مختلفة: الفوضى والانتشار. ردّت بسرعة بهجمات عطلت صفارات الإنذار الإسرائيلية، وشبكات الكهرباء والمياه، وحتى أنظمتها الدفاعية كالقبة الحديدية. المفارقة أن بعض الصواريخ الإيرانية وصلت أهدافها، لا لأن الدفاع الإسرائيلي فشل، بل لأن “الرمز الرقمي” سبق “الرمح الحديدي”.
ما يثير القلق ليس فقط نجاح إيران في تنفيذ هجمات واسعة، بل استخدامها لوكلاء إلكترونيين: مجموعات هاكرز مستقلة أو شبه رسمية مثل “شاهد” و”Avengers”، تعمد إلى إغراق المجال الرقمي الإسرائيلي من جهات متعددة، لتفكيك منظومة الدفاع تدريجيًا عبر الإنهاك والتشتيت.
الأخطر كان حديث بعض الحسابات عن اختراقات استخباراتية طالت خرائط منشآت إسرائيلية حساسة، ما يطرح تساؤلات وجودية حول أمن البيانات العسكرية في عصر السحابة الرقمية.
مجموعات الظل
بجانب الدول، تتحرك أكثر من 70 مجموعة قرصنة في ساحة الصراع، بعضها تابع، وبعضها متحمّس، وبعضها ببساطة “يريد أن يُجرب قدراته”. هذه المجموعات تُعقّد المشهد بشكل كبير، فالهجوم قد لا يصدر من دولة، بل من مراهق عبقري في قبو بعيد، أو من مجموعة أيديولوجية بلا انتماء رسمي. إنه عصر تتداخل فيه الجغرافيا بالسايبر، وتضيع فيه الخطوط الحمراء.
ليس بعيدًا
لا تنحصر الحرب السيبرانية في طهران وتل أبيب. تعطل منشآت الطاقة الإيرانية يعني تلقائيًا اضطرابًا في إمدادات النفط، وبالتالي ارتفاعًا في الأسعار، كما حدث خلال يونيو، ما فاقم أزمة معيشية عالمية تعاني أصلًا من تضخم وهشاشة اقتصادية.
ثم هناك الكابوس الأكبر: انتشار البرمجيات المتقدمة التي طُورت لهذا الصراع إلى جهات غير حكومية. ماذا لو وقعت أدوات اختراق منشآت نووية بيد جماعات متطرفة أو أفراد غير منضبطين؟!
نهاية مفتوحة
حتى الآن، لا قواعد اشتباك تضبط هذا الفضاء المتوحش. لا اتفاقيات دولية تنظم حدود الحرب السيبرانية، ولا آليات مساءلة واضحة. إيران وإسرائيل تتصارعان، لكن الشرر يتطاير للجميع.
هل يمكن للعالم أن يستمر في تجاهل هذا النوع الجديد من الحروب؟ هل نحن بحاجة إلى “اتفاقية جنيف سيبرانية”؟ أم أن العالم، كما يقول البعض، يسير حثيثًا نحو حرب كبرى تبدأ بزر “Enter” وتنتهي بانطفاء مدينة بأكملها؟
في زمنٍ لم يعد فيه العدو جنديًا، بل شيفرة.. ولم تعد الضحية جسدًا، بل نظامًا رقميًا.. تبقى الحرب السيبرانية تذكيرًا صاخبًا بأن الأمن لم يعد مسألة حدود، بل مسألة خوارزميات.
*كاتب مصري وخبير بالاقتصاد الرقمي