في رمضان، تتغير ملامح المدن الإسلامية، فتصطبغ شوارعها بالروحانية، وتنبض أسواقها بالحركة، حيث يمتزج خشوع العبادات بزخم التجارة، ويتداخل أريج البخور مع عبق التوابل في الأسواق الرمضانية المزدحمة. وفي ماليزيا، التي تبوأت مكانة رائدة في السياحة الإسلامية، لا يقتصر رمضان على الصيام والقيام، بل يتحوّل إلى موسم اقتصادي مزدهر، تتلاقى فيه مشاعر الإيمان مع حسابات الاستثمار، وتتحول الأجواء الرمضانية إلى تجربة سياحية متكاملة، يجد فيها الزائر المسلم كل ما يثري روحه ويُرضي احتياجاته المعيشية.
لقد أصبحت ماليزيا وجهةً رئيسة للسياحة الرمضانية بفضل بنيتها التحتية المتكاملة، التي تلبي احتياجات المسافرين المسلمين، من فنادق متوافقة مع القيم الإسلامية، إلى مطاعم حلال، ومساجد تحتضن الزوار بروح الأخوّة الإسلامية. وفقًا للإحصائيات الحديثة، استقبلت ماليزيا 4.82 مليون سائح مسلم بحلول نوفمبر الماضي، بإجمالي إنفاق تجاوز 3.2 مليار دولار أميركي، متجاوزة بذلك أرقام العام السابق.
وبالنظر إلى توقعات نمو السياحة الإسلامية بنسبة 1.2 % سنويًّا حتى 2028، فإن ماليزيا تتجه لتعزيز هذا القطاع بمزيد من العروض والخدمات المصممة خصيصًا لجذب السياح المسلمين، لا سيما من دول الخليج العربي والدول المجاورة لها.
ومن بين أبرز معالم السياحة الرمضانية، تأتي “بازارات رمضان” التي تحوّل الأسواق الليلية إلى ساحات نابضة بالحياة، حيث تتلاقى أصوات الباعة مع أدعية الصائمين، ويتناغم وهج الفوانيس مع ألوان الأطعمة التقليدية. في ولاية بينانغ، التي تُعرف بكونها عاصمة الطهي الماليزي، تسعى السلطات إلى ترسيخ هذه البازارات كمنتج سياحي رسمي، مستندة إلى رؤية ترى في الطعام والثقافة عنصرين جاذبين، لا يقلّان أهمية عن المعالم الأثرية والفنادق الفاخرة. وهكذا، تتحوّل لحظة الإفطار إلى تجربة ثقافية، يتشارك فيها السياح والسكان المحليون أطباقًا تراثية، وسط أجواء تعزّز التفاعل الاجتماعي والانتماء الديني.
لكن التجربة السياحية الرمضانية في ماليزيا لا تتوقف عند الأسواق، بل تمتد إلى الفعاليات الدينية والثقافية التي تُنظم طوال الشهر الفضيل، حيث تُقام دروس دينية في المساجد التاريخية، وتنطلق جلسات نقاشية حول القيم الإسلامية، إلى جانب إفطارات جماعية مفتوحة تجمع زوارًا من مختلف الجنسيات. كل هذه المبادرات تضع ماليزيا في صدارة الوجهات الإسلامية، وتُرسّخ موقعها كدولة نجحت في تحويل رمضان من مناسبة دينية إلى نموذج اقتصادي متكامل برائحة البخور والإيمان.
وبينما تستعد ماليزيا لاستقبال مزيد من السياح في الأعوام القادمة، يبقى التحدي الأكبر: كيف يمكنها الموازنة بين تعزيز السياحة الرمضانية والحفاظ على الجوهر الروحاني لهذا الشهر الفضيل؟ سؤال مفتوح، لكن المؤكد أن ماليزيا وجدت الوصفة المثالية لاقتصاد رمضاني يعبق بالإيمان، ويزهو بالاستثمار.