في جميع البلدان وأينما يتواجد المسلمون فإن استهلاكهم المواد الغذائية يرتفع في شهر رمضان عن غيره من الشهور، والكثير من الناس يعتبر أن هذه الحالة حالة طبيعية يتطلبها هذا الشهر، وإن كانت تؤثر على الدخل الشهري، والحقيقة أن الزيادة في الاستهلاك نتاج غياب ثقافة الاستهلاك، والإنفاق، واستخدام المال في محله الطبيعي. فحمى الاستهلاك ثمرة من ثمرات الحضارة المادية التي قادت المجتمعات عمومًا إلى الخضوع لمنطق الاستهلاك وخدمة الجسد وملئه بما لذّ من الطعام والشراب، وبهذه الطريقة يصبح شهر رمضان شهرًا استهلاكيًّا أكثر منه تعبديًّا لطغيان استهلاك الكثير من الأطعمة والأشربة، وهو أسلوب لا يتفق مع أهداف الصيام بوصفه عبادة تخدم الروح وتهذبها بعيدًا عن شهوة الجسد وملئه بالطعام.
فترى الناس يتسابقون لملء بيوتهم من السلع الغذائية الخاصة بشهر رمضان، وكأن هذا الشهر وجد من أجل التفنن في إعداد الوجبات بتعدد الأصناف وتكاثرها على المائدة ليذهب الكثير منها هدرًا بعد ذلك إلى سلال القمامة، وبذلك خسرنا هذه الأطعمة ولم يستفد منها جسدنا ورمينا أثمانها في سلال القمامة، وهذا يتناقض مع أهداف ومعاني عبادة الصيام، ومما يزيد من حمى الاستهلاك في شهر رمضان المحاكاة والمنافسة، فيندفع المرء لاقتناء ما يقتنيه الآخرون تقليدًا وتنافسًا، وربات البيوت يتنافسن في الإكثار من إعداد الأطعمة التي تغذي الجسد لا الروح، وللآلة الإعلامية المصورة والمقروءة والمكتوبة دور أساسي في إنتاج الحمى الاستهلاكية، بتشجيع المرء على اقتناء مختلف المنتوجات دون الاهتمام بجودتها ودون مراعاة إمكانياته المادية، فتزيد الشركات والمؤسسات التجارية من إعلاناتها وكمية منتجاتها بهدف تكريس فكرة أن شهر رمضان هو شهر الطعام والشراب، بجانب برامج الطبخ الرمضانية المنتشرة على القنوات التلفزيونية.
تهدف ثقافة الاستهلاك وخاصة في شهر رمضان إلى تعويد الجسد على الابتعاد عن شهوات الطعام وتحريره من حمى الاستهلاك، والعمل على نشر ثقافة جديدة تربي الإنسان على تحقيق مقاصد الصوم من خلال تقنين كميات الطعام لا تضخيمها، والابتعاد عن الإسراف الذي نهى الله تعالى عنه في قوله (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، وما تم إسرافه من الأطعمة ما هو إلا جزء من حقوق المحتاجين إلى هذه الأطعمة التي تم إهدارها بدون التفكر في مشاعر وحاجة هؤلاء المحتاجين.
لذا، علينا جميعًا ألا نتسابق في ميدان النزعة والشراهة الاستهلاكية للسلع الغذائية، وألا نجعل من بيوتنا مخازن للتجار لتكديس المواد التموينية، فلنشتري بقدر احتياجاتنا، وبقدر دخلنا، فأسواقنا مليئة بهذه السلع ومفتوحة ليلًا ونهارًا. ولنضاعف من ثقافة الشراء والوعي الادخاري، ولنقلل الهدر الغذائي والاستهلاكي، ولنتجاوز العادات والتقاليد الاجتماعية والأسرية المحفزة للاستهلاك السلبي المفرط، ولنعمل على تنظيم غذائنا وتقليص الكميات المهدورة من الطعام. وكل عام وأنتم بخير.
كاتب وتربوي بحريني