وسط الركام المتهاوي فوق رؤوس الشرق أوسطيين، خرجت علينا وزارة الخارجية الإسرائيلية عبر بعض منصاتها بخريطة مثيرة وخطيرة، ذلك أنها تحمل شهوات قلب الدولة العبرية تجاه جوارها الجغرافي، رافقها نص عنوانه “هل تعلم أن مملكة إسرائيل كانت قائمة منذ 3000 سنة؟”. ليس في الأمر خطأ غير مقصود، بل إنه أمر متعمد، يحمل الكثير من الإسقاطات على قادم أيام المنطقة.
تضم الخريطة أجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن الأردن ولبنان وسوريا، ما يُعدّ إمعانا في تكريس الاحتلال الحالي وخرقا صارخا وانتهاكا للقوانين الدولية الآنية.
على أن الأمر على هذا النحو يعكس من دون أدنى شك، نوايا إسرائيل التوسعية التي لا توجد لها حدود واضحة مثل أية دولة ويستفالية حول العالم، إنما هي في سعي متواصل آناء الليل وأطراف النهار لخلق واقع جغرافي وديموغرافي جديد.
الضحية الأولى للخريطة الإسرائيلية التي أُلقيت كما زهر النرد، لتعطي أعين التنين عوضا عن الستات، هي الدولة الفلسطينية المستقلة التي يلتهمها وحش الاستيطان، والحديث الدائر عن احتلال كامل وشامل للضفة، بعد الانتهاء من تكريس وضع عسكري جديد في غزة، وضع يعيد سيرة الاحتلال قبل انسحاب شارون عام 2005، خير دليل على الرفض المطلق لفكرة الدولة الضرورية لأصحاب الأرض الأصليين من الفلسطينيين الذين عاشوا هناك قبل بضعة آلاف من السنين.
تاليا تتبدى صورة التمدد الكولونيالي الإسرائيلي، من عند شرقي نهر الأردن، إلى ما وراء نهر الليطاني، ثم الامتداد ناحية سوريا، التي كانت يوما واحدة من دول الطوق، واليوم مستقبلها في علم الغيب.
هل النوايا الإسرائيلية المنحولة توفر أهدافا أخرى ربما تتجلى في خرائط مستترة لم يحن الوقت لأن تظهر إلى العلن؟
من دون تهوين أو تهويل، المتابع للشؤون الإسرائيلية يكاد يلحظ نوعا من نبرة متصاعدة رافضة لحضور الجيش المصري في سيناء، حتى إن كان الأمر في وضعية الدفاع عن أرضه، لا الاستعداد لمهاجمة إسرائيل، وعليه باتت أبواق تل أبيب الإعلامية تصدع القاصي والداني بقيام مصر باختراق اتفاقية كامب ديفيد، مع أن القائم على الخروقات هي إسرائيل عينها التي تنشر جنودها وعتادها في ممر صلاح الدين والذي تم توصيفه في المعاهدة وما تلاها من تفاهمات بأنه “منطقة منزوعة السلاح الثقيل، إلا من وحدات أمنية رمزية”.
الخريطة المطبوعة في العقل والقلب الإسرائيليين التوراتي، هي خريطة الوعد، أي من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات.
يحتاج الحديث عن هذا الوعد إلى كتب ومؤلفات قائمة بذاتها، غير أنه باختصار غير مُخل ربما يتعين علينا القول إن الوعد بالفعل كان لأبناء إبراهيم، وقد حدث في عهد إسماعيل أبوالعرب، وبحسب النص التوراتي “أجعل إسماعيل أمة كبيرة”، وهذا معناه ومبناه، أنه كما أن الوعد لإسحق، فهو كذلك لإسماعيل من قبله وفيه وأثناءه وبعده.
ولأننا لا نود الدخول في الديالكتيك الكتابي، فعلى الأقل نتلمس الشرائع والمواثيق الدولية التي على أسسها قامت دولة إسرائيل المعاصرة، أما الرجوع إلى خرائط تعود إلى ثلاثة آلاف عام، وتدور من حولها النظريات، فهو أمر لا يفيد إلا في حدود إذكاء روح التطرف وتحويل الشرق الأوسط من جديد إلى ساحة للقتال الذي تتوسع رقعته يوما تلو الآخر.
أعطت عملية “طوفان الأقصى” والتي سيحكم التاريخ على جدواها يوما ما، الوازع والذرائع لإسرائيل للتفلت من أحكام اتفاقية أوسلو التي أنشأت الإدارة الذاتية للسلطة الفلسطينية في أجزاء من الضفة الغربية، واليوم تبدو وكأنها تدبر بليل بهيم لواقعها بعد وقف إطلاق النار في غزة.
حديث الخرائط الإسرائيلية وإن واجه صحوة تُحمد لدول عربية في مقدمها المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات، وموقف متقدم لجامعة الدول العربية، لكنه يُلقي بظلال من الشكوك حول مواقف الإدارة الأميركية القادمة، حيث تبدو أميركا بدورها في خضم مرحلة مغايرة لرسم حدودها وخرائطها لا سيما في الشمال جهة كندا كما رأى العالم، ولو من باب الإرهاصات في الوقت الراهن.
والخلاصة أنه في مواجهة “غزوة الخرائط”، يتجاوز المطلوب الأصوات الزاعقة والرايات الفاقعة إلى نقل المعركة بموضوعية إلى الساحة الدولية والاشتباك في مجالات التاريخ الأكاديمي ومعطيات الجغرافيا، عطفًا على الحقائق الدوغمائية غير المنحولة، وإيلاء أدوات الإعلام المعاصر الأهمية الكبرى لنقل الحقائق للعالم الخارجي، وجميعها نقاط التحام لا تقل أهمية عن المواقع الحربية.
غزوة الخرائط تهديد استراتيجي مستقبلي للعرب الذين يصدق فيهم قول برناردشو “شعب واحد، تفصل بينهم لغة واحدة”.
كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية