يشهد لبنان منذ سنوات أزمة اقتصادية غير مسبوقة، حيث وصفتها تقارير البنك الدولي بأنها واحدة من أسوأ ثلاث أزمات عالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر، فقد بدأ اقتصاد لبنان يتفاقم منذ العام 2019 أي منذ انهيار الليرة اللبنانية، وهذا ما أدى إلى فقدانها أكثر من 90 % من قيمتها أمام الدولار الأميركي، ورافق ذلك انهيار النظام المصرفي وارتفاع معدلات البطالة والفقر إلى مستويات كارثية تجاوزت 50 % من سكان لبنان. هذه الأزمة ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تراكمات تاريخية من سوء الإدارة المالية والتجاذبات السياسية التي جعلت من لبنان مسرحا لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.
وفي ظل هذا الانهيار الشامل، جاء انتخاب العماد جوزيف عون رئيسا للجمهورية في يناير 2025 كخطوة تحمل آمالًا كبيرة لإحداث تغيير حقيقي. عون، الذي كان قائدا للجيش اللبناني أثبت كفاءته – في نظر اللبنانيين – من خلال حفاظه على استقرار المؤسسة العسكرية وسط ظروف أمنية وسياسية مضطربة. وُلد عون في سن الفيل بالعام 1964، وحمل رؤية واضحة في تعزيز حيادية الجيش وإبعاده عن التجاذبات السياسية، وهي رؤية قد يحتاج إلى تطبيقها على نطاق أوسع في منصبه كرئيس للجمهورية اللبنانية، وأعتقد بأن هناك العديد من التحديات التي سيواجهها الرئيس الجديد، أبرزها التعامل مع الأزمة الاقتصادية التي شلت مؤسسات الدولة ودفعت مئات الآلاف من اللبنانيين إلى الهجرة بحثا عن حياة أفضل، والخطوة الأولى في مواجهة هذه الأزمة تتمثل في إصلاح القطاع المصرفي والنظام المصرفي اللبناني، الذي كان يوما ما مصدر قوة للاقتصاد اللبناني وأصبح اليوم عقبة رئيسة أمام استعادة هذه الثقة، كما يتطلب هذا الإصلاح إعادة هيكلة البنوك المتعثرة وضمان الشفافية في التعامل مع أموال المودعين، وتحديد خطة واضحة لاستعادة السيولة النقدية.
إلى جانب ذلك، يحتاج لبنان إلى تعزيز القطاعات الإنتاجية التي يمكن أن توفر فرص عمل وتقلل الاعتماد على الاستيراد، خصوصا في القطاع الزراعي والصناعي اللذين عانيا لعقود من الإهمال، حيث يمكن أن يلعبا دورا محوريا في إنعاش الاقتصاد إذا ما تم الاستثمار فيهما بالشكل الصحيح، وبالنسبة لقطاع السياحة الذي كان يُعد من أبرز أعمدة الاقتصاد اللبناني، والذي يحتاج إلى إعادة إحياء من خلال تحسين البنية التحتية وضمان استقرار الأوضاع الأمنية لتعود لبنان دولة آمنة للسياحة.
رغم أهمية هذه الإصلاحات، إلا أن مكافحة الفساد تبقى المفتاح الرئيس لتحقيق أي تقدم؛ كون الفساد المستشري في بعض المؤسسات سببا رئيسا في فشل الحكومات في تنفيذ خططها الإصلاحية. الرئيس الجديد بحاجة إلى اتخاذ إجراءات صارمة للمحاسبة بعيدا عن الضغوط السياسية.
على الصعيد الدبلوماسي، تمثل استعادة العلاقات الخارجية أولوية ملحة لإنعاش الاقتصاد؛ كون لبنان كان معتمدا على دعم دول الخليج العربي التي كانت شريكا استراتيجيا ومصدرا رئيسا للتحويلات المالية والاستثمارات لإعادة بناء جسور الثقة مع دول مثل السعودية وقطر والإمارات والبحرين، وهذا ما يحتاج إلى تغييرات جذرية في سياسات لبنان الخارجية من خلال الابتعاد عن أية محاور إقليمية تضر بمصالح البلاد.
كما أن تعزيز التعاون مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يمثل فرصة مهمة للحصول على مساعدات مالية وتقنية، خصوصا في مجالات البنية التحتية والطاقة. من جهة أخرى، يمكن للبنان أن يسعى لتوسيع شراكاته الإقليمية مع دول مثل تركيا ومصر من خلال الاستثمار المشترك في قطاعات استراتيجية مثل السياحة والطاقة المتجددة.
هذه الجهود لن تكون ممكنة دون تحقيق توافق داخلي بين القوى السياسية المختلفة؛ كون لبنان يعاني منذ سنوات من انقسامات سياسية عميقة، ما جعل اتخاذ أي قرار وطني مهمة شبه مستحيلة.
الأزمة اللبنانية ليست مجرد أزمة اقتصادية أو سياسية، بل تحمل أبعادا اجتماعية عميقة منها معدلات الهجرة المتزايدة، خصوصا بين الشباب، وهذا ما يُفقد البلاد كفاءات ضرورية لإعادة الإعمار، كما أن تراجع الطبقة الوسطى، وارتفاع معدلات الفقر، يهددان الاستقرار الاجتماعي ويجعلان من أية خطة إصلاحية مجرد خطوة مؤقتة إذا لم تترافق مع معالجة شاملة للوضع الإنساني.
لتوضيح حجم التحدي، يمكن مقارنة الوضع اللبناني بأزمات شهدتها دول أخرى مثل اليونان التي واجهت أزمة ديون خانقة في العقد الماضي، حيث تمكنت اليونان من تجاوز أزمتها بفضل الالتزام بإصلاحات مالية صارمة، وتعاونها الوثيق مع الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، ورغم اختلاف السياقات فإن تجربة اليونان تُظهر أهمية وجود رؤية واضحة وشركاء دوليين ملتزمين لدعم مسار الإصلاح.
أما على المدى الطويل، فإن لبنان بحاجة إلى رؤية استراتيجية تستشرف مستقبله على مدى العقود القادمة، منها استغلال الموقع الجغرافي للبلاد كمركز تجاري إقليمي، والاستفادة من الموارد الطبيعية والبشرية، حيث يمكن أن يحول لبنان إلى نموذج للدولة الصغيرة ذات التأثير الكبير، وهذا الأمر لن يتحقق إلا إذا تضافرت الجهود بين القيادة السياسية والمؤسسات المدنية والشعب اللبناني الذي أثبت مرارا قدرته على النهوض رغم الظروف الصعبة.
إن انتخاب العماد جوزيف عون رئيسا للبنان قد يكون بداية لمرحلة جديدة، لكن الطريق شاق ومليء بالعقبات، لكن إرادة الإصلاح والعمل الجماعي يمكن أن تحول الأزمة إلى فرصة، حيث يقف لبنان اليوم أمام مفترق طرق، فإما أن ينجح في تحقيق التغيير المطلوب أو يستمر في دوامة الأزمات التي أرهقته لعقود طويلة، وهذا ما يتطلب اتخاذ قرارات حاسمة ووضع رؤية مستقبلية واضحة تؤمن للأجيال القادمة حياة كريمة ومستقرة.
كاتب بحريني