مضى أكثر من عام على عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة حماس في داخل إسرائيل انطلاقًا من قطاع غزة، وما تبعها من ردود الفعل الإسرائيلية العنيفة القاسية وحرب الإبادة التي شنتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في القطاع، والتي لا تزال مستمرة ومستعرة وأدت حتى الآن إلى استشهاد أكثر من 42 ألف فلسطيني من الرجال والنساء والأطفال، وأضعاف هذا العدد من الجرحى والمفقودين والمشردين والنازحين، وتدمير أكثر من 80 % من قوة حماس وأسلحتها وإنفاقها، و70 % من مباني ومنازل ومدارس ومستشفيات غزة ومرافق بنيتها الأساسية. إضافة إلى أن غزة عادت من جديد إلى قبضة الاحتلال الإسرائيلي.
ومنذ بداية هذه الجولة من الصراع المسلح غير المتكافئ بين فصيل حماس وإسرائيل بدأت تدخل في الحلبة وبشكل مباشر أطراف أخرى أبرزها إيران وأذرعها في المنطقة، منها الحوثيون في اليمن والحشد الشعبي في العراق؛ ومن أهمها حزب الله اللبناني الذي جر لبنان إلى ساحة المعركة ووضعها مرة أخرى تحت طائلة القصف والدمار والخراب، وخصوصا في جنوبه ما أدى حتى الآن إلى فقدان المئات من أرواح اللبنانيين، وتوغل القوات الإسرائيلية في الأراضي اللبنانية، وإلى تدمير مروع للعديد من ضواحيه ومدنه، واغتيال معظم قادة حزب الله، وعلى رأسهم قائد الحزب الأسطوري حسن نصر الله. إن إيران لم تكن من قبل قط، وهي ليست شريكا طبيعيا، في الصراع العربي الإسرائيلي، فقد كانت ثاني دولة مسلمة تعترف بإسرائيل بعد عام واحد فقط من تأسيسها في العام 1948م، وإن اشتراكها في هذا الصراع وفي هذا الوقت بالذات هي مشاركة مرحلية وتكتيكية، وستنسحب منها عندما تستوفي غاياتها وأهدافها أو عندما يتغير النظام الحاكم فيها أيهما أقرب.
وإسرائيل لم تسلم أو تنج من الخسائر والتدمير، فقد قتل حتى الآن أكثر من ألفي إسرائيلي بين عسكري ومدني، بحسب التقديرات الإسرائيلية، ودُمرت الصورة التي كانت ترسمها أمام العالم منذ نشأتها على أنها دولة ديمقراطية مسالمة مهددة ومحاطة بطوق من الأعداء الذين يسعون إلى إلقائها في البحر.
وفي اليوم الأول من المواجهة، في يوم طوفان الأقصى، ونتيجة لتوغل حوالي ألف مسلح بأسلحة خفيفة من فصيل حماس إلى داخل الحدود الإسرائيلية انهارت نظرية الأمن الإسرائيلية، وتحطمت هيبة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وتهشمت سمعة أجهزتها الأمنية والاستخباراتية التي لا تقارن، إلى جانب انهيار قطاعاتها السياحية منذ ذلك التاريخ وتعثر منظومتها الاقتصادية بسبب حالة الاستنفار واستدعاء الاحتياطي والنزيف المالي الناتج عن التكلفة العالية للحرب البالغة أكثر من ربع مليار دولار في اليوم الواحد، إلى جانب ازدياد عدد المهاجرين إلى الخارج والنازحين من مستوطنات الشمال وغلاف غزة.
ودوائر الخراب والموت والدمار لجميع الأطراف آخذة في التمدد والاتساع، ولن يكون هناك منتصر في النهاية، نعم لم ولن يتمكن الفلسطينيون ومعهم جميع العرب إن شاؤوا من تدمير إسرائيل والقضاء عليها بالقوة كما يتمنى ويتغنى بعضهم، فإسرائيل أصبحت حقيقة واقعة تدعم وجودها الإرادة الدولية وتساندها وتحميها بكل قوة والتزام أكبر قوة ضاربة في العالم؛ الولايات المتحدة الأميركية ومعها باقي دول المعسكر الغربي؛ كما رأينا ولا نزال نرى منذ اليوم الأول لانفجار طوفان الأقصى.
وفيما عدا ما كسبته القضية الفلسطينية من تعاطف وتفهم بين قطاعات أوسع في المجتمع الدولي، فإن الفلسطينيين وأنصارهم في هذه الجولة لن يحققوا أي انتصار يذكر، وعندما يتحدث المتحمسون عن الانتصارات التي تحققت أو التي ستتحقق فلا تصدقوهم، فالفلسطينيون خسروا الكثير في هذه الجولة أيضًا.
إن تصدر حركة حماس الإسلامية لهذه الجولة غير المتكافئة من المواجهة العسكرية مع إسرائيل بدعم من منظومة الحركات والأنظمة السياسية الإسلامية في المنطقة، وعلى رأسها نظام الحكم في جمهورية إيران الإسلامية وأذرعه الإسلامية في المنطقة مثل حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق حوَّل الصراع مع إسرائيل من صراع سياسي إلى صراع ديني، وهذا التحول لا يخدم القضية الفلسطينية، وربما يكون من أحد العوامل التي تفسر هذا الدعم العسكري والسياسي والمادي السخي الهائل والسريع الذي حصلت عليه إسرائيل من دول الغرب بشكل خاص وغيرها من الدول، بما في ذلك الهند على سبيل المثال من أول يوم من المواجهة، إلى جانب أن انفراد حركة حماس وتصدرها مع أعوانها من التنظيمات السياسية الإسلامية لهذه الجولة من المواجهات العسكرية مع إسرائيل جعل الدول العربية وغيرها من الدول الإسلامية تمتنع عن الاصطفاف والانجراف وراء هذه المغامرة وعدم المشاركة المباشرة في هذه الجولة الواضحة النتائج والعواقب إدراكًا من هذه الدول أيضًا بأن الأنظمة والحركات السياسية الدينية أثبتت فشلها وعجزها وعدم قدرتها على استيعاب وإدارة متطلبات الصراع والتصدي للقضايا الوطنية الحاسمة.
إسرائيل لن تنتصر في هذه الحرب، وعلى الرغم من تفوقها العسكري وما يحققه الجيش الإسرائيلي من مكاسب في ساحات المعارك فإن إسرائيل لن تتمكن من تحقيق أهدافها باستخدام القوة أو حتى القوة المفرطة، ولن تستطيع أن تدعي الانتصار، بل ستتكبد المزيد من الخسائر المادية والمعنوية وفي الأرواح والممتلكات، وقد تتمكن من قتل المزيد من الفلسطينيين؛ أطفالهم نسائهم كهولهم وشبابهم، لكنها لن تستطيع تصفيتهم وإخماد صوتهم أو القضاء على قضيتهم، فالقضايا العادلة للشعوب والأمم لا يمكن القضاء عليها وتصفيتها بقوة السلاح أو في ميادين المعارك، كل القوى الاستعمارية فشلت في القضاء على مطالب الشعوب التي كانت تستعمرها، فرنسا تعلمت هذا الدرس في الجزائر وغيرها من المستعمرات، بريطانيا لُقنت درسًا في الهند بعد أن اضطرت إلى الخضوع لإرادة الشعب الهندي الذي حصل على استقلاله بقيادة المهاتما غاندي وبالوسائل السلمية، وشعب جنوب أفريقيا بقيادة نيلسون مانديلا علم العالم استحالة القضاء على إرادة الشعوب، ولن يكون الشعب الفلسطيني مستثنى أو شاذًا عن هذه القاعدة الراسخة.
إسرائيل دولة صغيرة جدا، ومهما قيل عن قوتها، فلن تستطيع أن تنتقل من مواجهة عسكرية إلى أخرى مع الفلسطينيين والعرب بين فترة وأخرى، كل خمس أو كل عشر سنوات، خصوصا بعد أن أصبحت هذه المواجهات تستغرق وقتًا طويلًا وتتحول إلى حرب استنزاف لا تقوى عليها ولا تستطيع تحملها، ودافعو الضرائب في الولايات المتحدة والدول الغربية لن يستمروا في تمويل عمليات إسرائيل ومغامراتها العسكرية.
ولكل شيء نهاية؛ وقريبًا سيتوقف إطلاق النار بين الأطراف المتحاربة في هذه الجولة، دون أن يكون ثمة منتصر فيها، وقتها ستكون حركة حماس وحزب الله فقدتا كل قوتهما وقدراتهما، وسينكمش نفوذهما ووجودهما في المنطقة، وستكون إسرائيل منهكة ومنهارة القوى، وسيتسلم ترامب مسؤولياته الرئاسية ويبدأ في تنفيذ وعوده لناخبيه ومنها عدم إشعال حروب جديدة بما يعني عدم إمكانية نشوب مواجهة عسكرية مع إيران التي ستدرك بدورها استحالة استمرارها في تحدي الإرادة الدولية، كما وعد الرئيس ترامب ناخبيه بإنهاء الحروب الدائرة الآن وتقليص الالتزامات المالية للولايات المتحدة تجاه هذه الحروب، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا والمواجهات العسكرية بين إسرائيل وحركة حماس ومسانديها.
وفي خضم كل ذلك سيتمكن الإسرائيليون من التخلص من نتنياهو وجماعته من اليمينيين المتطرفين، واختيار قيادة جديدة تقودهم إلى حالة من الاستقرار والسلام الحقيقي.
وسيدرك الجميع أن حل الخلافات بين دول المنطقة وإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية سيتحقق على طاولات المباحثات، وليس في ساحات المواجهات العسكرية.