لم أتصور أن الجواب سيكون في غاية الصعوبة، عندما فاجأني أكبر أحفادي وأعرب عن رغبته في القراءة في تاريخ العرب والمسلمين، وسألني عن أفضل المصادر التي أنصحه بالاستعانة بها، وحفيدي هذا قد أكمل لتوه البكالوريوس في تخصص الاقتصاد والإدارة، وبدأ هذا العام دراسة الماجستير في التخصص نفسه في إحدى الجامعات البريطانية المرموقة.
في الحقيقة احترت كيف أو بماذا أجيب؛ ورغم إحساسي بالتقدير والإعجاب باهتمامه بتاريخ معتقده وهويته القومية، وهي رغبة نادرة بين شباب هذا الجيل، إلا أنني وجدت نفسي مرغمًا وبكل الخجل والأسى لأن أنصحه بالتخلي عن هذه الفكرة؛ بحجة أن الاهتمام بالمستقبل أفضل له من الاهتمام أو التعلق بالماضي، وأن النظر إلى الأمام أحسن من الالتفات إلى الوراء، وأن الانشغال بقضايا الساعة مثل الذكاء الاصطناعي وما شابه، أكثر فائدة من الانغماس بين الصفحات العتيقة للتاريخ.
إن التاريخ بطبيعته، وبشكل عام، لا ولم يكن يتحلى بالنزاهة والمصداقية؛ وهي حقيقة يقر بها المؤرخون أنفسهم؛ وقد صدق رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل عندما قال “إن التاريخ يكتبه المنتصرون”، وهي عبارة أو حكمة تلخص بشكل دقيق حقيقة أن الروايات التاريخية غالبًا لا تستند إلى حقائق، وعادةً ما تكون متأثرة بمن يملك السلطة في الوقت الذي تُكتب فيه؛ فالمنتصرون هم الذين يصوغون التاريخ بشكل يعزز شرعيتهم ويبرر مواقفهم، وهم الذين يفرضون رواياتهم على الآخرين.
وبالنسبة إلى كثير من المجتمعات أو الأمم، فإنهم وضعوا التاريخ خلف ظهورهم، واعتبروه مجرد ماضٍ يمكن تجاوزه، وعندما يتجه النقاش بينهم في مسألة ما، أو لتجنب توجه النقاش في مسألة ما نحو الاحتدام أو التصادم، فإنهم عادة ما يُنهون الجدل بالقول: لنتركها، إنها أصبحت تاريخا (it’s history)، أي أنها لم تعد تستحق الاهتمام.
لكننا، نحن معشر العرب والمسلمين، على خلاف ذلك تمامًا؛ فإننا لا نعتبر التاريخ مجرد سجل للأحداث، بل هو جزء أساس ومرجعية لمنظومة القيم والممارسات التي تشكل هويتنا ووعينا الجمعي، وهو أداة كثيرًا ما يتم استخدامها واستنهاضها لفرض معايير فكرية أو عقائدية.
لذلك، فإن للتاريخ عندنا أهميته وقدسيته، وربما نحن الأمة الوحيدة التي تؤمن بأن تاريخها وماضيها أفضل وأنصع من حاضرها ومستقبلها، وأصبحنا نتيجة لذلك نتمسك ونتعلق بتاريخنا وماضينا؛ فتفوتنا قاطرات التقدم والتطور.
وقد ربطنا تاريخنا بشكل وثيق بمعتقداتنا الدينية، وامتزج السرد التاريخي في مصادرنا بالسرد الفقهي، واختلطت الحقائق بالأساطير، واعتبر كثيرون منا سرديات تاريخنا ومروياته حقائق مطلقة مقدسة وأدوات ثابتة غير قابلة للنقاش، فأصبح كل من يشكك في الأحداث أو المرويات التاريخية الخاصة بنا وتطوراتها وتداعياتها، كأنه يشكك في أسس معتقداتنا، من دون أي اعتبار أو احترام لقوة العقل والتفكير النقدي.
ونحن مازلنا، وسنبقى كما يبدو، في جدل وخلاف محتدم بشأن أحداث وقعت في الماضي، وقبل قرون طويلة، سَجل تطوراتها وتداعياتها مؤرخون بمرويات وسرديات مختلفة في معظم الأحيان، ومتضاربة في بعضها ومتناقضة في كثير منها، وهم لا يختلفون عن غيرهم من مؤرخي الأمم الأخرى، أو ربما أسوأ، في اتجاههم نحو التحريف والتزوير والتطبيل والتهويل، وفي الواقع فإن المرويات والسرديات التاريخية التي تضمنتها بطون مصادرنا لم توفر لنا الدروس والعبر التي تؤدي إلى توحيد كلمتنا وترسيخ هويتنا المشتركة عربا ومسلمين، بل ساهمت في توسيع رقعة الخلاف والشقاق فيما بيننا، وجعلت الماضي جزءا من الحاضر، ومصدرا دائما للتوتر والانقسام.
إن أهم مصادر تاريخ العرب والمسلمين تشتمل على مجموعة واسعة ومختلفة من النصوص والوثائق، التي تعتبر مراجع رئيسة لرسم وفهم تطور الحضارة الإسلامية والعربية عبر العصور. وهي بذاتها وفي الوقت نفسه موزعة أيضًا على محاور مذهبية مختلفة، أكبرها المحور السني ويليه المحور الشيعي الإمامي، إلى جانب عدد لا بأس به من الجيوب المذهبية والطائفية والفقهية الأخرى، التي لن نتمكن من التطرق إليها أو ذكرها في هذه الوقفة.
ففي مضمار المذهب السني، فإن أهم المصادر هي سيرة ابن إسحاق، وسيرة ابن هشام، ومغازي الواقدي، و “تاريخ الأمم والشعوب” للطبري، و “الكامل في التاريخ” و “أسد الغابة في معرفة الصحابة” لابن الأثير، و “البداية والنهاية” لابن كثير، و “المقدمة” لابن خلدون، و “مروج الذهب ومعادن الجوهر” للمسعودي، ورحلات ابن بطوطة، و “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” للإدريسي، وتتضمن القائمة أيضًا كتب التراجم والطبقات مثل كتاب “طبقات ابن سعد” وغيرها من مثل هذه الكتب والمصادر.
وعلى الضفة الشيعية الإمامية، يقف مؤرخون مثل الشيخ المفيد ومن أشهر كتبه “الإرشاد”، والشيخ الطبرسي ومن أشهر مؤلفاته “إعلام الورى بأعلام الهدى”، والشيخ الصدوق ومن أشهر كتبه التاريخية “كمال الدين وتمام النعمة”، الذي يتناول تاريخ الغيبة الكبرى للإمام المهدي، وابن طاووس وله كتاب “اللهوف في قتلى الطفوف” الذي يُعد من أشهر المراجع التاريخية لمعركة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين، واليعقوبي وكتابه “تاريخ اليعقوبي”، والنوبختي وكتابه “فرق الشيعة”، الذي يُعد من أقدم الكتب التي وثقت الفرق والمذاهب الإسلامية مع تركيز خاص على الطوائف الشيعية، وبنظرة خاطفة نستطيع أن نرى أن جل اهتمام مؤرخي الشيعة انصب في سيرة الأئمة وقضية الخلافة واستشهاد الإمام الحسين، وما تبعه بالنتيجة من إدانة وشجب لنظام الدولة الأموية والدولة العباسية، كما نستطيع بكل سهولة أيضًا أن نستنتج أن المؤرخين من كلا الطرفين تركوا تأثيرًا ملموسًا في توثيق التاريخ العربي والإسلامي وتفسيراته، إلا أن أهم ما يجمع بين كل الكتب والمصادر التاريخية التي ألفوها هو الاختلاف والتناقض بين بعضها البعض، الذي يعود إلى عوامل تاريخية وسياسية واجتماعية ودينية عدة، ما جعل الأحداث تُروى بطرق مختلفة وفقًا للمنظور الذي كان يعتنقه كل مؤرخ، أو المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها.
ومع ذلك، فإن ما ذكرناه لا يعني الدعوة إلى التنكر لتاريخنا العربي والإسلامي أو التبرؤ منه أو ازدرائه والتقليل من شأنه، إنما وددنا أن نشير إلى أن كل ذلك يضع الوعي العربي والإسلامي أمام إشكالية مركزية حيال تاريخه، ويفرض علينا التبصر والتأكد من تجرد ونزاهة وحيادية ومهنية المؤرخ وأمانته العلمية، وضمان عدم خضوعه لأي استقطاب أو انحياز ديني أو مذهبي أو سلطوي، بما يدفعه إلى تسطير مروياته تحت ظروف أو ضغوط سياسية أو اجتماعية أو مذهبية.
وعلى الرغم من أن بعض المؤرخين، مثل ابن خلدون، طوروا منهجا نقديا في كتابة التاريخ، إلا أن معظم المؤرخين في العصور الأولى لم يعتمدوا على أساليب نقدية صارمة للتحقق من صحة الروايات التاريخية، وبالتالي، كان هناك انتشار واسع للروايات المتناقضة والمتضاربة، ما خلق تباينا كبيرا في صورة الأحداث التاريخية، وهو ما يفرض علينا الركون إلى العقلية النقدية بتبني موقف أكثر نقدية وانفتاحا تجاه التاريخ؛ لكي نتمكن من التمييز بين الحقائق التاريخية المجردة، وبين التأويلات والتفسيرات التي قد تكون مدفوعة بأجندات أو مصالح خاصة.