يفتح أبناء غزة أبواب ذاكرتنا بابا بابا، ويوقظون بصمودهم الأسطوري أحلامنا بأمجاد الأمة ابان أوج حضارتها وازدهارها، وأتذكر أن فنانا عربيا عبر بعد زيارته غزة بأن من يذهب إلى غزة ويشم ترابها فلابد أن يعود إليها مرة ثانية. صحيح أن المجازر بحق أبنائها تستعصي على الوصف، وأن حجم الدمار هائل جدا والوحشية الإسرائيلية فاقت كل الحدود، بيد أن صمود أهلنا في غزة هو أسطوري بكل معنى الكلمة. إن الأزمة طالت كل مناحي الحياة والأوضاع الاجتماعية متردية، فمشاهد الدمار التي تبث عبر القنوات شاهدة على الهمجية الإسرائيلية، وأشد ما يؤلم الإنسان العربي هو الحصار الظالم المفروض عليهم حيث باتت الحياة لا تطاق.
إن تشبث الإنسان الفلسطيني بأرضه أشبه بالمعجزة، وهذا يذكرنا بكلمات الشاعر الفلسطيني توفيق زياد “كأننا عشرون مستحيل في اللد والرملة والجليل.. هنا على صدوركم باقون كالجدار وفي حلوقكم كقطعة الزجاج.. وفي عيونكم زوبعة من نار.. نجوع نعرى نتحدى ننشد الأشعار”. لعل ما يذهل في صمود أهلنا في غزة هو تجذر روح المقاومة بكل أبناء الشعب الفلسطيني وخصوصا الأطفال الذين هم الأبطال بكل المقاييس، وتشبثهم بالأمل بأنه مهما اشتدت وطأة الاحتلال فإنه سيندحر يوما ما.. هذا الذي سطرته كل الشعوب التي عانت من المحتل على امتداد التاريخ، وهذا نقيض الصورة التي تكونت في مخيلة البعض والتي ترسخت لديهم بأنه شعب تعب وأرهق جراء الحصار الجائر والقمع الوحشي، بيد أن الواقع هو النقيض تماما. نعم هناك طوابير تنتظر حصتها من التموين وضحايا يتساقطون كل يوم بل كل ساعة وأزمات خانقة، لكن الناس يتحملون كل هذه المآسي بصمت وكبرياء وشموخ. والنفوس الجبارة لم تذلها لقمة العيش والبطش اليومي من عدو يفتقد أبسط القيم الإنسانية. نفوس تتألم ولا تصرخ ولا تبكي ولا تركع أمام الآلة الجهنمية العمياء، ولا يبقى إلا أن نستذكر ما قاله نزار قباني: “يا أبناء غزة علمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا.. علمونا بأن نصبح رجالاً فلدينا الرجال صاروا عجينا”.
* كاتب وتربوي بحريني