لكِ الله يا درنة! أيتها المدينة المنكوبة مرّتين، الشهيدة مرّتين! لك الله يا ساحلا كنتَ بالأمس القريب ملاذا للمصطافين، واليوم مَناما للمفقودين! لك الله يا بلد التاريخ والحضارة والكرم، يا بلد الجمال، يا عروس ليبيا، يا درّة المتوسط! لك الله يا درنة العروبة.. يا درنة المنكوبة.
فَعَلها إعصار دانيال المتوقّع، وحوّل هذه المدينة الجبلية الواقعة على ساحل البحر المتوسط في شمال شرق ليبيا إلى ركام من طين، وأموات وأنين.. فعلها إعصار دانيال المتوقّع منذ أيام قبل وقوعه ولم يبقِ من ثاني كبرى مدن الجبل الأخضر إلا القليل، وأمّا البشر والحجر والحيوان والنبات والأشياء.. فقد تلاشت هنا وهناك. فعلها إعصار دانيال المتوقّع حدوثه تأكيدا لا احتمالا، فحوّل مجرى وادي درنة الذي يقسم وجه المدينة إلى شطرين من مصدر جمال لدرنة وخضرتها النامية وظلالها الوارفة إلى مصدر شؤم وخراب، إلى مارد مدمّر لا يستطيع أحد أن يوقفه، مارد مروّع ابتلع في مياهه الغامرة أهل درنة الطيبين وضيوفهم وكل شيء اعترض سبيله.
قلت درنة الشهيدة مرّتين، والمنكوبة مرّتين، بل ومرّات ومرّات؛ لأنّ هذه المأساة تحل بدرنة فيذهب أهلها أمواتا شهداء بإذن الله في مياه الفيضانات الغامرة، ويذهب من بقي من الأحياء "شهداء" الانقسام السياسي الذي يعصف بليبيا منذ 2011، تحلّ هذه المأساة بدرنة وليبيا الشقيقة تعاني من الانقسام بين حكومتين متنافستين تسيّران أمور البلاد: حكومة مؤقتة معترف بها دوليّا من طرابلس في الغرب، وأخرى منافسة لها في الشرق، وتصدر الأوامر من هنا وهناك وتتضارب التصريحات والرؤى والتوجّهات بين قطبي البلاد بشأن احتواء تداعيات الكارثة، يضاف إلى ذلك غياب واضح للتنسيق والتعاون بشأن استقبال المساعدات الدولية، فبالرغم من صعوبة الوصول إلى درنة في الأيام الأولى جوّا أو بحرا أو برّا، أعربت العديد من الدول عن استعدادها لمدّ يد المساعدة، لكنّ مكابرة هذا الطرف السياسي حينا وذاك الطرف العسكري النافذ في ليبيا حينا آخر جعل العديد من المساعدات تتعطّل في بلدانها ولا تخرج من مطاراتها نحو درنة.
لقد استشهدت درنة في هذا الظروف المأساوية مرات ومرات، وها هم أهلها يتجرعون بمرارة ضعف الإمدادات وعدم وصول المساعدات في الوقت المناسب.
ومع بطء عمليات البحث عن الناجين من الموت والمفقودين بين ركام الفيضانات، تتضاءل الفرص وتموت آمال العثور على بعض الأحياء، ويزداد انتشال الجثث صعوبة، خصوصا أنّها قد بدأت تتحلل مع تقدم الأيام.
نعم، ليس لليبيا عهد بمثل هذه الكوارث الطبيعية عموما، فما بالك بحكومتين حديثتي العهد تتنازعان السلطة منذ سنوات على حساب تطوير البنية التحتية للطرقات والسدود والجسور، وغيرها من الخدمات التي يحتاجها أشقاؤنا في ليبيا خاصة بعد أن عصف بهم تجار الموت منذ سنوات من خلال جماعات التطرف بمختلف مسمياتها (داعش وأخواتها..).
وفي الوقت الذي تحطّمت فيه الجسور الأسمنتية في درنة بسبب إعصار دانيال، وتصدّعت فيه الجسور السياسية بين السلطتين واستشهدت من ورائهما درنة مرّتين، ها هي جسور المحبة والأخوة بين أبناء الشعب الليبي الشقيق تمتدّ وتمتدّ من الغرب إلى الشرق ومن الجنوب إلى الشمال، لتنسج لوحة محبة وسلام ينسج خيوطها التعاون والتراحم بين الإخوة؛ إذْ لا تتوقف قوافل الإغاثة والمساعدات في "فزعة" لا نظير لها.. ها هي العلاقات الأخوية الوطيدة بين أبناء الشعب الليبي الشقيق تُصلِحُ ما أفسدته قسوة الطبيعة وشهوة السلطة. فسلام لك يا درنة.
كاتب تونسي