العدد 4758
الأحد 24 أكتوبر 2021
banner
الفكر السياسي الإسلامي المعاصر وأبو الأعلى المودودي 1-2
الأحد 24 أكتوبر 2021

بنهاية الستينات من القرن الماضي، وعندما التحقت بالدراسة الجامعية بالمسار الأدبي فرع العلوم السياسية والإدارة العامة بجامعة مومباي؛ كان من بين المواد الإلزامية مادة “تاريخ وثقافة الهند” بتطوراتها السياسية وحضارتها وثقافاتها وأديانها وساستها ومفكريها الذين برز من بينهم اثنان من المفكرين الإسلاميين؛ أبو الحسن الندوي وأبو الأعلى المودودي، وقد توقفت، كما توقف الملايين غيري عند الثاني منهما مطولًا، وظللت أقرأ له وأقرأ عنه منذ ذلك الوقت.
والمعروف أن الأصولية الدينية الإسلامية؛ بمعنى العودة إلى الأصول والجذور، هو مفهوم مركزي مُثبِّت للفكر السياسي الإسلامي المعاصر، ويضيف لهذا الفكر ويعطيه بعدًا روحيًا وعمقا زمنيا، وهو ليس بالشيء الجديد في التاريخ العربي والإسلامي، إلا أن إعادة إنتاجه وتوليده في العصر الحديث لم تتم في أي من الدول العربية أو الإسلامية، كما أن الفضل أو اللوم لا يعود إلى حسن البنا أو سيد قطب أو الإمام الخميني لانبثاق الفكر الحركي الإسلامي السياسي المعاصر، ولا يستطيع أي واحد من هؤلاء الثلاثة أن يدعي السبق في بلورة الدعوة إلى تأسيس دولة دينية إسلامية. 
إن الأسبقية أو الفضل أو اللوم على انبثاق هذا الفكر وهذه الحركة في التاريخ الإسلامي المعاصر يعود في الحقيقة والأساس إلى أبو الأعلى المودودي؛ وهو مفكر هندي مسلم ولد في العام 1903 في ولاية حيدر أباد الهندية إبان الحكم البريطاني للهند؛ وصار يُعد من أبرز عمالقة الفكر السياسي الإسلامي المعاصر ومن ألمع وأخطر منظري التيارات الإسلامية؛ فقد كتب في هذا الشأن زهاء مائة وأربعين كتابا وبحثا ترجمت إلى معظم لغات العالم، مع انه تعلم القرآن الكريم وشيئا من قصص الأنبياء وبعض مبادئ اللغة العربية فقط على يد أبيه ولم يلتحق بمدرسة نظامية أو ينل أي قسط من التعليم الفقهي أو الأكاديمي العالي.
وقد عاد المودودي في تأسيس فكره إلى “الأصول” عندما استنهض شعار “إنْ الحكم إلا لله” الذي رفعه الخوارج بعد أقل من 40 عاما من هجرة الرسول الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام، وقال عنه الإمام علي بن أبي طالب “إنها كلمة حق يراد بها باطل” ولم يختلف معه في هذا التفسير عدوه اللدود معاوية بن أبي سفيان.
وأرسى المودودي نظريته “الحاكمية لله” على أساس تصوره بمركزية العالم وعلى قاعدة أن الله خلق هذا الكون وهو وحده الذي يحكمه ويسيطر عليه، وان البشر غير مؤهلين لحكم أنفسهم.
يقول المودودي “إن الحاكمية في الإسلام خالصة لله وحده، فالقرآن يشرح عقيدة التوحيد شرحًا يبين أن الله وحده لا شريك له، ليس بالمعنى الديني فحسب، بل بالمعنى السياسي والقانوني كذلك، إن وجهة نظر العقيدة الإسلامية تقول: إن الحق تعالى وحده هو الحاكم بذاته وأصله، وإن الإنسان لا حظ له من الحاكمية إطلاقًا”.
وقد أصبحت “الحاكمية لله” من المصطلحات السياسية الدارجة في مدارس الفكر السياسي الإسلامي، و أصبح تفسير المودودي لهذا المفهوم محورا ومرتكزا للنظريات وللحراك السياسي الإسلامي لكل التيارات الحركية الإسلامية بشقيها السني والشيعي. وفي الواقع فإنها أصبحت تمثل غطاء مقدسا لوصول رجال الدين المتسيسين أو السياسيين المتأسلمين إلى كراسي السلطة.
ويصف البعض المودودي بأنه ملهم المتطرفين ومرجعية حركاتهم المتطرفة، وانه بذر بذور العنف وأرسى منهج استعمال القوة لإحداث التغيير وحسم الاختلافات والنزاعات والصراعات، فأصبح فكره يشكل أهم قواعد الأصول الفكرية للعنف والإثارة والتحريض، وفي الكلمة التي ألقاها بمناسبة تأسيس “الجماعة الإسلامية” في الهند التي أصبح أميرًا لها قال “دعوتنا لجميع أهل الأرض أن يحدثوا انقلابًا عامًا في أصول الحكم الحاضر الذي استبد به الطواغيت والفجرة الذين ملأوا الأرض فسادًا، وأن ينتزعوا هذه الإمامة الفكرية والعملية من أيديهم”، وأضاف “علينا أن نبذل الجهود المتواصلة والمساعي المتتابعة للقضاء على زعامة أئمة الكفر والضلال واجتثاث النظم الباطلة من جذروها، وإحلال الإمامة العادلة والنظام الحق محلها”.
وكان المودودي صديقا حميما للشاعر والفيلسوف الإسلامي محمد إقبال مؤلف كتاب “تجديد الفكر الديني في الإسلام”، وقد أشاد إقبال بأفكار المودودي قائلًا “إنّ هذا الشيخ يعرض دين الرسول صلى الله عليه وسلم بقلم مداده الدم”.
ونادى المودودي بتطبيق الشريعة الإسلامية في “دولة دينية” يحكمها رجال دين بتفويض إلهي، وكان أول من تبنى وأسس في التاريخ الإسلامي لمفهوم جديد للجاهلية في كتابه “الإسلام والجاهلية” دعا من خلاله إلى “تكفير المجتمعات الإسلامية” ووصفها بالجاهلية وحكم عليها بالكفر والردة، شاجبا ورافضا في الوقت نفسه الديمقراطية والعلمانية وأفكارهما.
وفي تزامن لافت، في خمسينات القرن الماضي برز المودودي في القارة الهندية وحسن البنا في العالم العربي كنجمين لامعين للإسلام السياسي الأصولي بعد أن أصاب الاثنين التذمر والإحباط والمرارة للظروف التي كان يمر بها المسلمون بعد انهيار الدولة أو الخلافة العثمانية في العام 1923م، فتطابقت ردود فعلهما وانعكس إحباطهما وتذمرهما وتجلى في أسلوب طرحهما وكتاباتهما، وقد ألف المودودي كتاب “الجهاد في الإسلام” وتأثر البنا تأثرًا بالغا وواضحا بالأفكار التي تضمنها هذا الكتاب التي كانت تتفق مع ما كان يراوده من أفكار وآراء، وعموما فقد تأثر حسن البنا بآراء ونظريات المودودي في الحاكمية وفلسفة الدولة الإسلامية والكفر والدمج بين الدين والسياسة.
ومع أن البنا كان مفكرا ومنظما ومؤمنا بمبدأ التدرج والتطبيق على مراحل من خلال منظومة تربوية وسياسية إسلامية بلورها بإتقان في برامج عمل وتنظيمات مدعومة بمشاركة مجتمعية سياسية، إلا أنه قام بتوسيع وتمديد حلم المودودي وارتقى بطموح جماعة الإخوان المسلمين إلى السيطرة على العالم بأسره باطلاق نظرية “أستاذية العالم” التي تهدف إلى تمكين الإخوان من «سيادة الدنيا، وإرشاد الإنسانية كلها إلى نظم الإسلام الصالحة، وتعاليمه التي لا يمكن بغيرها أن يسعد الناس».
وكان البنا قد شكل تنظيم “الإخوان المسلمين” في مصر في العام 1928 وهو شاب في العشرين من عمره، بعده بـ 13 عاما أسس المودودي تنظيم “الجماعة الإسلامية” في الهند التي أصبحت واحدة من أكبر الجماعات الدينية في العالم.
وتحت قيادة حسن البنا ظلت أفكار وسلوكيات جماعة الإخوان المسلمين تعمل إلى حد كبير في إطار الشرعية القانونية، ملتصقة بالنسيج الاجتماعي وبالواقع المصري والعربي، متفاعلة مع مكوناته وأطيافه، معنية بتثقيفه واحتوائه فكريا؛ على خلاف دعوة المودودي ومدرسته الفكرية العنيفة، ولم تنزلق أفكار الإخوان تحت قيادة البنا إلى هاوية أو مرحلة الانقلاب على المجتمع وتكفيره كما طالب المودودي.
ولكن بعد اغتيال البنا في العام 1949 وانضمام سيد قطب للجماعة في العام التالي، ثم سيطرة العقلية العسكرية على الحياة السياسية في مصر في الثالث والعشرين من يوليو 1953 وتولي قادة الانقلاب العسكري زمام السلطة؛ انتقلت حركة الإخوان المسلمين من خطاب البنا إلى خطاب أو مشروع المودودي الشمولي، واتجهت نزعات الاخوان نحو العنف بعد اعتناق قيادتهم لأفكار وكتابات المودودي، التي أصبحت بعد ذلك تشكل الأصول النظرية الأساسية المسيطرة على السلوك والفكر السياسي للإخوان، والتي بقيت عالقة حتى الآن في وجدان الكثير منهم وفي عقيدة تيارات الإسلام السياسي عموما، وقد نشرت الصحف المصرية في شهر فبراير 2018 “أن مصادر أمنية مصرية كشفت أن كتب أبو الأعلى المودودي، مؤسس الجماعة الإسلامية في الهند، والمؤصل لفكر التكفير والحاكمية، تعد الأكثر وجودا بحوزة الخلايا المسلحة التي تم إلقاء القبض عليها خلال السنوات الماضية بمصر، وتحديدا منذ سقوط حكم الإخوان في 30 يونيو 2013”.
وللحديث بقية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .