+A
A-

الملاح: أرفض مصطلح قصيدة النثر ولدينا شغف مقيت بالألقاب

فتَّت صخر المألوف والتقليدي، وأحسبها نجحت في تمردها وتجاوز الراية المنكسة شكلا ومضمونا. ماهرة بلعبة اللغة وطلاسم الصيغ المختلفة وصوتا متفردا في شعر البحرين الحديث.

نادية الملاح، الشاعرة التي تتغنى على قيثارة ذات وتر واحد، وفي كل مرة نطالع قصائدها تنطلق بنا الحياة وتغمرنا بأمواجها الزاخرة.

- النزعة الجديدة الهادفة لدى بعض الشعراء تترسخ وتتأصل يوما بعد يوم لتتجلى بطابع النظرية أو لتتسم بطابع المذهب. ونجم عن ذلك ما يشبه أن يكون جدلا بين فريقين أحدهما يؤمن بأن الشعر يجب أن يكون للحياة، والآخر يصر على أن يكون الشعر بعيدا عن الأحداث والحياة. ما رأيك؟

الشعر حياة متكاملة مستقلة بذاتها، ولا يمكن فصل الحيوات عن بعضها، إن انفصل الشعر عن الأحداث والحياة انفصل عن ذاته، وانسلخ من ماهيته، فكلّ ما يمرّ بنا وننسج من ذراته حروفًا هو حدثٌ بحدّ ذاته، الفرح، الحزن، المواقف الإنسانية، الدمار، الحرب، كلّ ذلك أحداث تولّد حالات إنسانية إن انفصل عنها الشاعر فقد مصداقيته، وانزوى بلغته في رصّ وصفّ لا معنى له ولا طريق يصل به إلى أرواح من حوله.

- هل تعتقدين أن هناك فروقا مميزة بينكم وبين الجيل السابق من حيث معمار القصيدة؟

لكلّ زمانٍ لونه وطبيعته، في كلّ شيء لا في الشعر وحسب، على الرغم من أنني ضد هذا التقسيم، فمازال هناك شعراء كبار تحيا نصوصهم في داخلنا وتبدو أشبه بصورة الأب الموجّه لحروفنا من حيث لا نعلم، على أن معمار النص قد أخذ مناحي عدّة خرجت بالقصيدة في كثير من المواطن عن هويتها الأساس، ومازال هذا الأمر موضع خلاف بيني وبين الكثير من كتّاب الكلمة، إن صحّ المسمّى؛ لأني مازلت أرفض بعض المصطلحات مثل "قصيدة النثر" ومازلت أجد خطًّا فاصلا بين الشعر وبين النثر، أكتب النثر بشغف، وأتماهى فيه في أحايين كثيرة، لكني أبدًا لا أسميه قصيدة، أنحو جهة التفعيلة والعمود، وأمزج فيها القديم بالحديث، لن أسمي ذلك فروقًا مميزة، لكنها مدعاة تغيّر الفكر والثقافة وطبيعة الجيل.

ماذا تعنى الحرية للشاعر وما حدودها؟

مفهوم الحرية متشعّب، تشكّله الثقافة الخاصة لكل إنسان، شاعر كان أو عداه، لكني أجد الحرية في التنوّع والتحليق، وأعني ملامسة الأفكار والأحداث والمشاعر على اختلافها شرط ألا يتخطى الشاعر الذوق العام وألا يتعدّى بحروفه أو صوره على فكر الآخرين وعقائدهم، فهناك ثمة مناطق محظورة عند كلّ شخص أو فئة، ما أقبل المساس به عندي عليّ ألا أقترب منه فيما يخص الآخرين، فلا أحلّ لنفسي ما أحرّمه على سواي. الشاعر مؤرّخ بكلّ المقاييس، قد يؤرّخ للحظة أو حدث أو موقف، وعليه في كل ذلك أن يتوخى الحذر في المساس بشعور الآخرين أو تجريحهم بأي شكلٍ كان، أؤمن بأنّ "حريتي تتوقف حيث تبدأ حرية الآخرين".

هل بدأ دور الشعر يتضاءل عن مستوى رسالته الأصلية في حياتنا كعرب، وهل هناك أزمة علينا أن نعترف بها؟

هناك أزمة فعليّة، ربما يمكن رؤيتها بشكل مصغّر في مسألة "الهوَس" بالألقاب، من يكتب نصًّا عابرًا، فهو الشاعر فلان، من يصدر كتابًا تحت مسمى رواية، فهو روائي، من ينتج مؤلّفًا ما، فهو كاتب، صار التسابق على الألقاب ووضعها أمام الأسماء أرجح كفّة من جودة الكتابة والنتاج الكتابي، وعن أية رسالة نتحدّث في وقتٍ صار التجديد فيه يتجه إلى محاكاة الشعر الياباني والصيني وغيرهما! أين هي هوية الشعر العربي وسط هذه الزوبعة، البعض يجدني متخلفة وأتمسك بماضي الشعر وأصوله، لكني أصرّ على أن الشعر العربي له هويته الخاصة جدًّا التي ليس من حق أحد المساس بها.

- يقول المازني: الشعر يحلق بالمرء فوق الحياة ويرغمه أن يحس ما يرى وأن يرى ما يحس، وأن يتخيل ما يعلم، وأن يعلم ما يتخيل، فالشاعر أحسن الناس وأعمقهم حكمة.. ما تعريف نادية للشعر؟

الشعر امتداد، ترجمة حسية، تحليق في اللامعقول، أجنحة تحملك إلى عوالم لا يراها إلا أنت، لكنك بإمكاناتك الحسية واللغوية تجسّدها ليراها الآخرون رأي العين، الشعر حياة متكاملة تتجذّر فيها أرواحنا ولا تنفصل عنها.

ماذا تقرئين الآن وهل تتبعين خطة محددة في القراءة وكيفية تنظيم وقتك بين العمل والقراءة والكتابة والمشاركة في الحياة الاجتماعية؟

من يعرفني عن كثب، يعرف أني أبعد ما أكون عن التنظيم، لا أحب جدولة الأشياء ولا المهام، أعشق الانطلاق في كل شيء، حتى في القراءة، فقد تمرّ شهور دون أن أقرأ كتابًا كاملا، وقد أنهي كتابا في يوم واحد، أغلب قراءاتي عبارة عن تصفّح غير منتظم للكتاب الذي بين يدي، أحاول قدر المستطاع أن أتواجد في الفعاليات والمناسبات، لكني أحيانا أحجم عن الكثير وأفضل الهدوء بعيدا عن صخب كلّ شيء.

- ما يميز شعر نادية عن سواه من شاعرات البحرين "حسب وجهة نظري" هو ما تتمتع به من ذكاء وحذق شعري، فأغلب قصائدها تفاجئنا بشيء ..تخبئ لنا أدغالها المليئة بالأوراق، روعة المغامرة، موسيقى لا تدركها إلا الروح، ولهذا فهي تشكل علامة مهمة في شعر الجيل الجديد.. ما تعليقك؟

أتمنى أن يليق حرفي بما ذكرت، لا أملك تعليقًا سوى التأكيد على أن الشعر عندي رئة ثالثة أتنفس من خلالها هواءً نقيًّا، لا أتردد في كتابة كل ما أشعر به تحت تأثير أو موقف أو تجربة، وربما ذلك ما يدفع البعض إلى القول بأني أتحدّث بلسانهم، حين تمتزج التجربة بصدق الشعور يمكنك أن تطوّع اللغة، بل إنها تتشكّل معك وتناغي إحساسك.

- شعراؤنا الشباب اليوم أكثرهم غير حذر حين يكتب، مما يسوق إلى شعرهم أشياء لا تتناسب ومقاييس طموحهم.. ما ردك؟

سيعيدنا ذلك إلى ما ذكرته آنفًا بشأن الشغف المقيت بالألقاب، هذا الولع الذي يجعل الشعراء الشباب يتخبطون بلا إدراك لما وراء تلك الأبواب التي يندفعون تجاهها، والواقع أنهم لا يتحملون المسؤولية كاملة، بل إنّ الجزء الأكبر منها يقع على عاتق المجتمع وأخص به من يطلقون على أنفسهم اسم "المثقفين" الذين يتعاملون مع المبتدئ معاملة المنجز المتميّز الذي حقق ما لم يحققه سواه، ذريعتهم في ذلك ضرورة التشجيع، لست ضد التشجيع، لكني ضد الإيهام، ضد أن أضع شخصًا في دائرة يتخيلها هالة ضوء، في حين أنها مجرّد مصباح معلّق قد يتداعى وينكسر جرّاء قفزة طفولية لم تكن في الحسبان، أولئك المصفقون لا يدركون حجم الضرر الذي يجرونه على ذلك المبتدئ وعلى ثقافة المجتمع بشكل عام، أضف إلى ذلك دور النشر التي تتأرجح بين المادية وبين السياسات الثقافية الخاصة بأصحابها