العدد 3988
الأحد 15 سبتمبر 2019
banner
الملك بيدرو والأستاذ مصطفى وحرف السين
الأحد 15 سبتمبر 2019

كلما زرت مدينة غرناطة الإسبانية أحرص دائمًا على حضور عروض فن الـ “فلامنكو” الإسباني، الذي تؤديه فرق فنية من غجر إسبانيا بعد أن أصبح هذا الفن مرتبطا الآن بالغجر الإسبان دون سواهم، مع أنه بقي وظل مشدودا إلى جذوره الثقافية الموريسكية ذات الأصول العربية الإسلامية.

وقد استنتجت وتوصلت جميع الأبحاث والدراسات إلى نتيجة واحدة، وهي أن هذا الفن الفلكلوري الغنائي الموسيقي أصله عربي أندلسي، يعتمد أساسًا على النجوى والشكوى والشجن، وتتجسد فيه وبشكل واضح أحاسيس الحزن والحسرة والأسى التي تعكسها التسمية “فلامنكو”، وهي كلمة محرفة من أصلها العربي “فلاح منكوب” بعد حذف حرفي الحاء والباء إشارة إلى الفلاحين الموريسكيين الإسبان الذين ينحدرون من أصول عربية إسلامية، والذين كانوا من ملاك الأراضي خلال الحكم العربي الإسلامي للأندلس وجردوا بعد انهيار ذلك الحكم من كل ثرواتهم وممتلكاتهم وتحولوا إلى فلاحين يعملون تحت إمرة الملاك الجدد للأراضي من المسيحيين الإسبان، فكان انبثاق هذا الفن يشكل مظهرا من مظاهر التعبير عن الرفض والاحتجاج والاستياء والسخط وعن المرارة والألم والغبن والحسرة التي يشعر بها هؤلاء البشر بعد ما حل بهم من تنكيل وقتل ونهب وسلب وإبادة لثقافتهم وهويتهم، ولذلك تتجلى عند أداء هذا الفن بوضوح شحنات الغضب والتذمر والانفعال العاطفي التي يعبر عنها الفنانون، ومع ذلك فقد أصبح هذا الفن مصدرًا ومنبعًا زاخرًا ينضح بالمتعة الفنية الراقية والنبيلة والمؤثرة ويتضمن أغاني وألحان حزينة وأخرى ذات طابع مرح.

وتتميز مقدمات أغاني الفلامنكو بالأنّات والآهات ومقاطع صوتية قصيرة لا تحمل أي معنى لغوي محدد، ولكنها بكل وضوح تبرز كتعابير عميقة قوية عنيفة مثخنة بالجروح ومثقلة بالمرارة والوجع، وهي قريبة إلى حد كبير للمقاطع الصوتية التي تبدأ وتتخلل أغاني الغواصين في منطقتنا الخليجية في فن “الفجري”، والتي يتم ترديدها بين مقاطع وأبيات الأغنية لتعبر عن اللوعة والأسى لحالهم ومعاناتهم وأوضاعهم المزرية وظروفهم القاسية، وتتضمن أيضًا المناداة والمناجاة وطلب الغوث والخلاص مما يتعرضون له من ظلم وإجحاف واستغلال من قبل تجار اللؤلؤ، فأصبحت تلك الأغاني كالأدوات أو القنوات التي يمر من خلالها خطاب النقد السياسي ومطالب الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي ضمن نزوع الكثير من الفئات والشعوب المغلوبة على أمرها والمقهورة للتعبير عن تذمرها واستيائها وسخطها عن طريق الإبداع في الفن بشكل عام والغناء والموسيقى بشكل خاص.

ولدرء بطش الكنيسة و“محاكم التفتيش” للموريسكيين فإن بعض أغاني الفلامنكو كانت تتضمن تضرعًا والتماسًا واستعطافًا وبعضها الآخر يتضمن إطراء ومديحًا للكنيسة وللملك بهدف إثبات الولاء للنظام والالتزام والتمسك بالدين المسيحي بعد أن أجبروا على التخلي عن الإسلام واعتناق المسيحية.

وبعد أن طُرد الموريسكيين من إسبانيا تلقف الغجر هذا التراث أو هذا الفن وساهموا في تطويره ووجدوه متماهيًا مع تراثهم ويعبر عن حالهم وما يعانونه من تهميش وكبت، وبذلك فقد استمر وظل هذا الفن متميزًا ومتوشحًا بوشاح الحزن والاكتئاب ومتصديًا للاستبداد والفساد والظلم الاجتماعي.

في زيارتي الأخيرة لغرناطة حضرت حفلة مميزة خصصت للتعريف بهذا الفن بمشاركة مترجمين متخصصين. في تلك الأمسية أدى مطرب الفرقة أغنية فيها إطراء وإشادة ومديح بالملك بيدرو العادل ملك قشتالة وليون الذي أسس نظامًا إداريًا مركزيًا قويًا لا سابق له، كما قال المغني، الذي نقل أيضًا عن الأسطورة، أن الملك بيدرو كان وسيمًا طويل القامة مفتول العضلات، أشقر بعيون زرقاء، مهيب الطلعة، مثقفا وقارئًا نهمًا، مولعا ومحبا للموسيقى والشعر والنساء، لكنه كانت له لدغة أو لثغة في نطق حرف السين ويستبدلها بحرف الثاء، ولم يتمكن هو أو يحاول أو يجرؤ أحد على إصلاح نطقه.

كان الملك بيدرو محبوبًا جدا من شعبه ويتمتع بتقدير الناس واحترامهم كما جاء في الأغنية، فقرر حكماء الدولة وقادة المجتمع ورؤوسه أن يلغوا حرف السين من اللغة الإسبانية ويستبدلوه بحرف الثاء حتى لا يبدو الملك شاذًا أو ذا عاهة أو يشعر بالنقص، ولكي يجنبوه أي حرج أو انتقاد، ومن هنا تغير نطق اللغة الإسبانية، كما يؤكد ذلك علماء اللغة، لذا على سبيل المثال نجد غالبية سكان إسبانيا يقولون برثلونة بالثاء وليس برسلونة بالسين كما ينبغي لها أن تُنطق باللغة الإسبانية.

وقد اختتم المطرب وصلته الغنائية في تلك الأمسية بهذه الكلمات: “من أجل حب الملك كان الناس على استعداد للانحراف بتراثهم وثقافتهم، نعم ومن أجل الملك بيدرو فقد عوج شعب إسبانيا لسانه”!

في هذا الحفل اكتشفت أن ثمة عاملا مشتركا كان يجمعني بالملك بيدرو في مرحلة من المراحل؛ ففي صباي وفي مرحلة دراستي التحضيرية والابتدائية كنت ألدغ أو ألثغ مثل الملك بيدرو، وهي حالة تؤدي إلى تشويه في نطق الحروف يتسبب في عدم وضوح الكلام، وكانت منتشرة بين الصغار والكبار خصوصا في ذلك الوقت.

مثل الملك بيدرو كنت أعاني من عدم القدرة على لفظ حرف السين وأَستبدله بحرف الثاء، وقد بدأت والدتي (رحمها الله) بتدريسي القرآن الكريم وأنا في سن الخامسة، وحاولت جاهدة تصحيح نطقي، وكعادة تلك الأيام استخدمت أشد وأقسى الوسائل، بما في ذلك الضرب بعصا الخيزران ولكن دون جدوى، بل بالعكس فقد أدى ذلك إلى ترسيخ العقدة وتثبيتها كما يؤكد ذلك علماء التربية وخبراء التعليم وعلماء النفس وحتى أساتذة السياسة، فكلهم يقولون إن الشدة، خصوصًا المفرطة، لا تؤدي إلى تحقيق الأغراض والأهداف المبتغاة بل إنها تأتي بنتائج عكسية، إلى أن يئست والدتي وفقدت الأمل وتركتني على علتي حتى أتممت حفظ القرآن الكريم عند بلوغي التاسعة بعد أن اجتزت صراعًا مضنيًا مع نص قدسي في غاية الإعجاز والبلاغة تكرر حرف السين فيه 6013 مرة وردت في 3423 آية، فكنت أنطق الاسم “اثمًا” وأصبحت سورة الإسراء “ثورة الإثراء”، وكان من بين أنبياء الله “عيثى وموثى وإثماعيل ويوثف وإثحاق وثليمان” وغيرهم، وكانت قراءة سورة الناس أو “ثورة الناث” كابوسا بالنسبة لي، وهي آخر سورة من سور القرآن الكريم، إذ يقول سبحانه وتعالى: “بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس، مَلِكِ النَّاس، إِلَهِ النَّاس، مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس”. ولكم أن تتصوروا كيف أصبحت تلاوة هذه السورة بعد تغيير كل أحرف السين فيها إلى ثاء، أما سورة الكوثر فهي الأسهل بالنسبة لي، فهي الوحيدة في القرآن الكريم التي ليس فيها حرف سين.

في مرحلة دراستي الابتدائية في المدرسة الغربية بالمنامة التي أصبح اسمها الآن “مدرسة أبوبكر الصديق” كان مدرس اللغة العربية في فصلنا رجلا فاضلا من فلسطين اسمه الأستاذ مصطفى، ولا أتذكر الآن اسمه الكامل، وكان أستاذًا متمكنًا ومدرسًا حازمًا شديدًا صارمًا في أسلوب تدريسه، يلجأ دائمًا إلى معاقبة الطالب المخطئ أو المقصر بالضرب بالعصا بشدة على يديه، كما كان يفعل كل المدرسين في ذلك الوقت عندما كان العقاب بالضرب يعتبر أفضل وسيلة للإصلاح والتربية والتعليم، لكن الأستاذ مصطفى لم يكن يعاقبني بالضرب عندما كنت أخطئ أو أقصر، بل كان يطلب مني أن أردد بيتا من قصيدة الشاعر معروف الرصافي المعنونة “تذكرت في أوطاني الأهلَ والصحبا” وكان البيت مكتظا بحرف السين وهو:

تساوى لديها السهل والصعب في السرى... فما استسهلت سهلًا ولا استصعبت صعبا.

فكان الأستاذ مصطفى يكتفي بالاستمتاع والضحك على أسلوب وطريقة لفظي وإلقائي للبيت عندما كنت استبدل حرف السين بحرف الثاء، وكان زملائي الطلبة في الفصل يغبطونني ويحسدونني على تمكني من تجنب العقاب بالضرب ويتمنون لو أنهم كانوا يعانون من المشكلة ذاتها.

لكنني كنت متضايقًا ومهمومًا وقلقًا ومحرجًا من هذه الحالة، وقد ازداد همي وقلقي عندما علمت أنه عند بعض فقهاء المسلمين لا تجوز إمامة الرجل الألدغ، كما أنه يُحرَم من الكثير من الوظائف التي تتطلب نُطقًا صحيحًا، فقررت أن أعالج هذا الخلل بعد أن عرفت أن سبب هذه المشكلة بالنسبة لي كانت انحراف أسناني عن وضعها وعدم وضع لساني في موضعه الصحيح عند نطق هذا الحرف، وقد نجحت بعد محاولات كثيرة في التخلص من المشكلة وزالت العقدة وأصبحت ألفظ حرف السين بالنطق الصحيح بعد أن أدركت أن حرف السين يتم نطقه صحيحًا سليمًا عندما تلتقي مقدمة اللسان مع الحافة العليا للثة خلف الأسنان العلوية، أما حرف الثاء فيتم لفظه عندما تلتقي مقدمة اللسان من أعلى مع أطراف الأسنان العلوية.

في حصة اللغة العربية وأمام الأستاذ مصطفى أخفيت حقيقة تمكني من لفظ حرف السين بالنطق الصحيح أو بالشكل الصحيح ولم أبح أو أفصح عن ذلك حتى نهاية ذلك العام الدراسي تجنبًا وخوفًا من أن يضربني الأستاذ مصطفى بالعصا في حالة ارتكابي لأي خطأ أو تقصير، وفضلت بدلًا عن ذلك الاستمرار في قراءة بيت شعر معروف الرصافي باللدغة أو اللثغة التي كانت تمتع الأستاذ مصطفى وتجعله يكتفي بها عوضًا عن ضربي بالعصا.

العبرة التي خرجت بها من تلك التجربة المحرجة هي أن أي إنسان قادر على تحقيق أهدافه ومراميه المشروعة إذا حاول واجتهد، وأن الملك بيدرو في حال صدق ما رواه المطرب في تلك الأمسية على الرغم من عدله وشجاعته وقوته ربما كانت تنقصه الإرادة والعزيمة والتصميم.

وشكرًا للأستاذ مصطفى ورحمه الله حيًا كان أو ميتًا.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية