كانت الشركة البريطانية الهندية للملاحة تُسير عدد من البواخر التي تربط موانئ دول الخليج العربي بمينائي بومباي بالهند وكراتش بالباكستان، وكانت تلك البواخر تحمل البضائع والمسافرين في آن واحد. ومن بين هذه البواخر كانت الباخرة “دارا”.
أبحرت دارا من ميناء البحرين عصر يوم الجمعة السادس من أبريل من العام 1961م متجهة إلى دبي في طريقها إلى كراتشي وبومباي، أربعة من موظفي شركة نفط البحرين (بابكو) كانوا من بين الركاب ومنهم البحريني اليهودي حسقيل سويري الموظف في الشركة والذي كان قاصدًا بومباي.
وفي صباح يوم الأحد الثامن من شهر أبريل استيقظت البحرين على خبر احتراق السفينة وغرقها قبالة ميناء دبي بعد أن وقع انفجار كبير في أحد محركاتها.
غرق في الكارثة 238 راكبا، وكانت من بين أكثر المشاهد المأساوية البحرية ترويعاً على مستوى العالم، ومن أسوأ الكوارث البحرية في الخليج العربي وقريبة من حادثة السفينة الشهيرة “تايتنك” التي غرقت عندما كانت مبحرة من بريطانيا إلى سواحل أمريكا الشمالية في العام 1912م.
أطبق على البحرين الذهول والجزع والحزن والأسى على الضحايا والمنكوبين، إلا أن نجاة حسقيل سويري من الغرق أضفت على الجميع الإحساس بالمواساة والسكينة، فساد البلاد جو من المشاعر والأحاسيس الإنسانية الفياضة، ، فرحوا لنجاة حسقيل سويري البحريني اليهودي بقدر ما حزنوا لوفاة المرحوم الحاج راشد بن علي باقرد البناء البحريني المسلم الشيعي أحد وجهاء وأعيان منطقة البنائين بالمحرق والذي كان ضمن الضحايا، وكانت تلك واحدة من ملاحم التعايش والتسامح والمودة التي تميزت بها البحرين نظامًا وشعبًا.
بعد ثلاثين عامًا حدث مشهد آخر مشابه تجلت فيه أيضًا قيم التعايش والتسامح والتآلف التي تتعلق بها البحرين قيادة وشعبًا، بطل هذا المشهد كان رجل الأعمال المعروف البحريني اليهودي المرحوم عزرا نونو.
كانت القوات العراقية قد أتمت احتلال كامل أراضي دولة الكويت بعد يومين من اجتياح حدودها في الثاني من أغسطس 1990، وانتهى الاحتلال عندما تم تحرير الكويت في 26 فبراير 1991 بعد حرب الخليج الثانية. في فترة الاحتلال التي دامت سبعة أشهر دُمر الكثير من أوجه الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الكويت، وأصاب الشلل والتعطل مجمل الإنشطة الإقتصادية، واستدعى الأمر بعد التحرير سرعة إعادة البناء وتأهيل المرافق والخدمات، فتجاوب الكثير من رجال الأعمال الخليجيين وغيرهم وتقاطروا على الكويت المحررة للمساهمة في توفير المتطلبات والاحتياجات عارضين خبراتهم وإمكانياتهم، وكان من بينهم عزرا نونو الذي أخذ يتردد على الكويت لتوفير خدمات التمويل والصرافة المالية، وفي إحدى سفرات العودة تعرضت سيارته لحادث تصادم خطير داخل حدود المملكة العربية السعودية. فقد عزرا في هذا الحادث حياته على الفور، ففُجعت البحرين وغرقت في بحر من الحزن والأسى.
كان المرحوم عزرا نونو تاجرًا مرموقًا معروفًا بصدقة وأمانته، يتحلى بدرجة عالية من الأخلاق الحميدة ممزوجة بقدر غير قليل من روح الفكاهة والمرح، وكان حريص على التواصل والتفاعل مع مختلف أطياف المجتمع البحريني ومكوناته، يزورهم ويعودهم في الأفراح والأتراح ويشاركهم مختلف المناسبات الدينية والاجتماعية، كان يتفاخر دائمًا بأنه بحريني أولًا وأخيرًا ثم يهودي بقلب عامر بالاحترام والتقدير للإسلام والمسلمين.
وفي شهر مايو من العام 2000م شهدت البحرين حدث نادر أو ربما يكون الفريد والوحيد من نوعه عندما توفى رجل الأعمال البحريني اليهودي فريد روبين وتم تغسيله وتكفينه والصلاة عليه في مقبرة المسلمين في المنامة ثم شًيعت جنازته إلى مقبرة اليهود المجاورة حيث تم دفنه حسب الطقوس اليهودية، ولا أعتقد أن أحدًا ممن لا يعرف البحرين جيدًا أو ممن لم يخالط أو يعاشر البحرينيين سيصدق ذلك، لكنها الحقيقة التي شهدها بحرينيون من كل المشارب والأطياف الذين شاركوا في صلاة الميت خلف جثمان فريد روبين في مسجد مقبرة المسلمين وشيعوا جنازته إلى مقبرة اليهود ودفنوه فيها بطلب من أسرته وبمشاركتهم.
وتشير بعض المصادر الموثوقة بأن عدد اليهود البحرينيين كان قد بلغ أكثر من 700 شخص في بداية القرن الماضي، عاشوا في بلدهم البحرين بأمان وسلام واطمئنان كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، كما عملوا وساهموا في مختلف المواقع والأنشطة وشاركوا باقي أطياف المجتمع البحريني حلو الحياة ومرها في هذه الجزيرة الصغيرة الحالمة، وأضافوا المزيد من الرونق والبهاء إلى نسيج المجتمع البحريني المتآلف، إلا أن عددهم أخذ بالتقلص والتراجع وبدء معظمهم يغادر البحرين على دفعتين، الأولى بعد أن تعرضوا للاعتداء والنهب على أثر أحداث العنف المؤسفة التي حدثت في نهاية العام 1947 من قبل بعض الأفراد الغاضبين والمنفعلين نتيجة لما وقع على أشقائهم الفلسطينييين من تنكيل وظلم وإجحاف على أيدي الإسرائيليين الصهاينة في فلسطين، وقرار الأمم المتحدة تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، والدفعة الثانية غادرت بعد هزيمة العرب وانتصار إسرائيل في حرب الأيام الستة في العام 1967م.
إلا أن اليهود البحرينيين الذين غادروا لم يهاجروا إلى إسرائيل بل فضلوا الاتجاه إلى بريطانيا ودول أوروبية وآسيوية أخرى والولايات المتحدة الأمريكية ما عدا عدد قليل جدًا منهم، من بينهم شخص كان يسمى صالح عزرا، (ليس إبنًا ل عزرا نونو المذكور آنفًا)، والسيد/ جرجي الذي كان يتاجر في البحرين في الأجهزة الإلكترونية وكان وكيل شركة هيتاشي اليابانية.
وكنا في مرحلة الصبا ندخل بيوت من تبقى من اليهود البحرينيين، لم يكونوا يسكنون في تجمعات منعزلة خاصة بهم بل كانت بيوتهم متجاورة ومتداخلة مع باقي البيوت، كانوا يتحدثون باللغة العربية وليس العبرية حتى في بيوتهم، كنا نعيش معهم ونختلط ونلعب مع أبنائهم في تآلف ومودة ووئام في المدارس وفي “الفرجان”. أتذكر اثنين منهم كانا يدرسان معي في المدرسة الغربية الإبتدائية في المنامة، التي تسمى الآن مدرسة أبو بكر الصديق، الأول كان داود سلمان سويري، والده سلمان سويري، الذي رأيته رجلًا وسيمًا لائِق الجسم طويل القامة بشوش الوجه، وكان يعمل موظفًا في البنك الشرقي، يسمى الآن ستاندرد تشارترد بنك، وابن عمه فيكتور حسقيل سويري، إبن حسقيل سويري الذي نجا من كارثة غرق السفينة دارا المذكور آنفًا، داود وفيكتور كانا في نفس العمر تقريبًا. حسقيل سويري، والد فيكتور، كان على خلاف أخيه سلمان، فقد كان، كما أتذكر، بدينًا قصير القامة مفتول الشاربين متجهم الوجه، كان الأخوين سلمان وحسقيل يسكنان في بيتين متقابلين في فريج المخارقة بالقرب من مسجد المهزع وليس بعيدًا عن الكنيس اليهودي المحاذي للسوق الذي بني في العام 1931م والذي كان مغلقًا في ذلك الوقت على أثر الأحداث المؤسفة التي وقعت في العام 1947.
وكالكثير أو ربما كمعظم اليهود في مختلف دول العالم، لم يكن يهود البحرين يؤمنون بعقيدة “ أرض الميعاد” كأداة سياسية، ولم يكونوا يحلمون أو حتى يتطلعون إلى الهجرة إلى فلسطين، ولم يثبت قط بأن اليهود في البحرين كان لهم أية ميول صهيونية أو إتصال بأي من المنظمات أو الوكالات الصهيونية، لقد شاهدنا ورأينا بأم أعيننا أن البحرينيين اليهود لم يكونوا، وقد ظلوا كذلك، غير متزمتين دينيًا أو ملتزمين بكل الطقوس والتقاليد الدينية اليهودية، فقد تركوا الكنيس مغلقًا لأكثر من ستين سنة منذ تدميره في العام 1947، ولم نرى أو نسمع بأن اليهود في البحرين يتغيبون عن وظائفهم أو يغلقون محلاتهم التجارية أيام السبت، أو رأينا أي منهم قط يلبس الملابس التقليدية اليهودية أو يضع على رأسه القبعة الصغيرة ذات المدلول الديني التي تسمى “الكيباه” أو “الكبة” أو “اليارمولكة”، أو يسدلون خصلات شعر طويلة متدلية على جانبي رؤوسهم كما يفعل بعض اليهود المتدينين، بل إنني أتذكر بأن عزرا نونو كان يلبس أحيانًا الثوب أو الدشداشة والغترة والعقال.
في لقاء الأحد القادم سنحاول أن نجيب عن سؤال بات من الواجب الإجابة عنه بكل صدق وصراحة وهو: هل أجبرنا، نحن العرب، اليهود في بلادنا العربية على الهجرة إلى إسرائيل؟