+A
A-

اتفاق "سوتشي" إلى "إدلب" و"قطاع غزة" الجديد

وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان منذ أيام، اتفاقاً ثنائياً يضمن إقامة منطقة منزوعة السلاح تفصل بين مناطق النظام ومناطق المعارضة في إدلب شمال غربي سوريا، ضمن ما يمكن اعتباره إعادة رسم حدود النفوذ الدولية، وذلك في سبيل تجنيب محافظة إدلب كارثة إنسانية، بعد تلويح النظام السوري وحلفائه بشن آخر معاركه مع المعارضة السورية.

حيثيات هذا الاتفاق الذي لاتزال كثيراً من بنوده في الصندوق الروسي – التركي، دفع المحللين والمراقبين إلى مقاربة مشهد إدلب مع قطاع غزة، وخطة "فك الارتباط" الأحادي التي نفذتها الحكومة الإسرائيلية في أغسطس 2005، والتي قامت على إثرها بإخلاء المستوطنات الإسرائيلية ومعسكرات الجيش الإسرائيلي من القطاع، مع انتشار لقوات الجيش الإسرائيلي على الشريط الحدودي مع قطاع غزة، وإبقاء حق الرد بقصف أو تنفيذ عمليات اغتيال على أي تجاوزات أمنية تثير حفيظة الحكومة الإسرائيلية من قبل الحركات الإسلامية المتواجدة في القطاع، وعلى رأسها "حماس" و"الجهاد الإسلامي".

إدلب .. خزان بشري للنازحين

إدلب اليوم، وبعد مضي 8 أعوام على الأحداث السورية، تحولت إلى أكبر مخيم للنازحين في العالم، فباتت تحوي خزانا بشريا كبيرا من النازحين من مختلف المناطق السورية، بلغ ما يقارب الـ4 ملايين مدني، مع وجود مجموعات مسلحة كثيرة، بما فيها "الجماعات المتطرفة" كالقاعدة "جبهة النصرة" و"هيئة تحرير الشام" وتنظيم "حراس الدين"، إضافة إلى مقاتلي داعش، والمهاجرين.

لتصبح محافظة إدلب عبئاً ومشكلة أكبر من أن يمكن حلها بالنسبة للنظام السوري وحلفائه (روسيا وإيران)، خصوصاً مع ما يتطلبه لاستعادتها من مجهود عسكري وخسائر بشرية ومادية وتحديات لإدارة المحافظة، مع ما في ذلك من ضغوط وتحذيرات المجتمع الدولي للنظام السوري وحلفائه من شن أي عملية عسكرية على المحافظة، تحسباً لموجات لجوء جديدة وتجنباً لكارثة إنسانية تضاف إلى رصيد ضحايا الحرب في سوريا.

فكان الخيار الأسلم وفقا لمراقبين، هو باستنساخ التجربة الإسرائيلية بخطة "فك الارتباط" مع قطاع "غزة"، وذلك بتحويل محافظة إدلب إلى قطاع معزول ومحاصر، يسيطر النظام السوري مع حليفه الروسي على معابره وخطوطه التجارية والدولية، ليس للمعارضة فيه سوى منفذ وحيد عبر معبر "باب الهوى" الحدودي مع تركيا.

وفي الوقت ذاته، يجد الجانب الروسي في اتفاق "سوتشي" فرصة لاحتواء المسلحين الإسلامويين والمجاميع المقاتلة ودمجها في مرحلة جديدة بالدخول في اللعبة السياسية، ومن جهة أخرى تحميلها مسؤوليات النظام في المحافظة وإدارة الشؤون العامة وتقديم الخدمات.

أيضاً وجدت مجاميع المقاتلين من الحركات الإسلاموية الموالية لتركيا في اتفاق "سوتشي" انتصاراً وفرصة للدخول في العملية السياسية، باقتصار الحديث على تخلي العناصر المقاتلة عن أسلحتهم الثقيلة في المنطقة معزولة السلاح والتي يتراوح عمقها بين 15-20 كلم.

وهو موقف حركة "حماس" ذاته، إثر انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، الذي كان تعبيراً عن "انتصار المقاومة"، وبحسب ما جاء على لسان موسى أبو مرزوق حينها: "هذا النصر هو نصر لشعبنا المظلوم الذي واجه صنوف الذل والعذاب وبقي صامداً، وبدأت بشائر هذا النضال والصبر والجهاد الطويل اليوم في غزة وغداً تستكمل في القدس".

المقاربة ما بين المشهدين تصاعد أكثر على لسان عدد من قيادات الفصائل المسلحة في سوريا، من ذلك كان حديث عبد الله المحيسني "شرعي جبهة النصرة سابقاً"، ومما جاء عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "التليغرام": "نعم قد يتوقف الجهاد كلياً أو مؤقتاً في منطقة أو بلدة ما (...) المحرر اليوم أحوج ما يكون لرجال يؤثرون مصالح أمتهم على أنفسهم، لبناء هذا الجيل الذي ولد وترعرع بين ريح البارود وذاق طعم العزة.. لقد ضربت غزة العزة أروع الأمثلة لأمتنا في الزمن المعاصر في طول النفس وعدم التململ من طول الطريق والإعداد والترتيب والإصرار على القضية...".

الأمر ذاته، جاء على لسان حذيفة عزام، نجل عبد الله عزام "الأب الروحي لأسامة بن لادن" عبد الله عزام في تغريدات مباركة ومؤيدة لاتفاق سوتشي قائلا: "على أهل إدلب والشمال المحرر أن يتخذوا من قطاع غزة المحاصر نموذجاً يستنسخون تجاربه، فالإمكانيات التي بين أيديهم أضعاف ما أتيح لغزة المحاصرة دولياً، كل دقيقة اليوم يجب أن تستغل في العمل الدؤوب ليكون الشمال السوري الحر بمثابة دولة مهابة الجانب مكتملة الأركان ذات ثقل في الميزان".

الانتصار الأردوغاني

وهنا نستطيع تفسير احتفاء السواد الأعظم من الجماعات المسلحة باتفاق سوتشي ووصفه بـ"الانتصار الأردوغاني"، ومقاربة تجربتها مع شقيقتها حركة "حماس" الموالية لإيران، وتركيا، كبداية للتحول إلى مرحلة أخرى وفق رؤيتها الخاصة وتحقيقا لمصالحها وأجندات داعميها، تبعاً لما تبرره بالتدرج الطبيعي للحركة "الجهادية".

وعلى غرار الهدن المتكررة التي وقعتها حماس مع الجانب الإسرائيلي، ودخولها في اللعبة السياسية في النظام الفلسطيني، تأتي مسوغات الجماعات الإسلامية المسلحة في سوريا "القاعدة والإخوان المسلمين والسلفية الجهادية"، في قبول اتفاق سوتشي الروسي – التركي، تمهيداً للحصول على الشرعية السياسية وقبولها إقليمياً ودولياً، والمشاركة بعد ذلك في صياغة الدستور السوري الجديد وصولاً إلى حجز مقاعد لها في التمثيل السياسي والحكومي.

هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) المنبثقة عن تنظيم القاعدة وبزعامة الجولاني، والتي تسيطر على ما نسبته 60 بالمئة من مدينة إدلب، تتقاسم الإدارة العسكرية لمدينة إدلب مع الجبهة الوطنية للتحرير التابعة لتركيا، وإلى جانبهما الحزب التركستاني وأنصار الدين.

تبحث لها عن موطئ قدم ضمن خارطة توزيع النفوذ، مع أحرار الشام والجيش الحر في المحافظة، مؤكدةً موافقتها على حل نفسها تبعاً للمطالب التركية، وإنما بشرط الإعلان عن تشكيل عسكري جديد تنضوي بداخله كافة الفصائل المسلحة، تتقاسم قيادته ضمن محاصصة عادلة لا تستثنى النصرة منها.

مع ذلك، تبقى هناك جيوب من عناصر ومنظري الجماعات المتطرفة، تعلن عن رفضها لما توصل إليه اتفاق "سوتشي" الذي تعده حيلة للتخلي عما يسمى "الجهاد" في أرض الشام، والتخلي عن مطالب سقوط بشار الأسد، على رأسهم مقاتلو الشيشان وشمال القوقاز، والذين قدر عددهم بما يقارب الـ5 آلاف مقاتل، إلى جانبهم عناصر تنظيم داعش.

إلا أن الرهان الروسي في ذلك يتلخص في أمرين: أولهما احتدام ومواجهة داخلية بين الفصائل. وثانيهما: لجوء روسيا إلى ما وصفته بالضربات الجراحية، والمقصود بها استهداف الرموز والقيادات من المقاتلين الأجانب والرافضين لفكرة الاندماج في العملية السياسية .

وذلك ما لجأت إليه الحكومة الإسرائيلية في قطاع غزة عقب تنفيذ خطة فك الارتباط، باستهدافها في جملة من عمليات الاغتيال لقيادات حماس والجهاد الإسلامي الرافضة لفكرة الاندماج في العملية السياسية، والداعمين دوما لتصعيد العمل العسكري الجهادي المقاوم.

النفوذ الإيراني - التركي

وإلى جانب التفاهمات والتقاء المصالح الروسية – التركية على الضفة الأخرى، كان كذلك تعاوناً ثنائياً ما بين الجانبين التركي والإيراني، وذلك مع بدء الخطة الخاصة بإدلب ضمن جولات أستانا، للوقوف في وجه التمدد الكردي، كان من ذلك مقترح رئيس الأركان الإيراني محمد باقري خلال زيارته إلى تركيا في أغسطس 2017، تنفيذ عمليات مشتركة على الحدود التركية – الإيرانية ضد قوات حزب العمال الكردستاني.

إلا أنه ومن خلف الدعاية الإيرانية بمحاربة الجماعات الإرهابية، والدفاع عن أبناء الطائفة الشيعية، يبقى خزان الفصائل الإسلاموية في إدلب، محكوماً بالنفوذ الإيراني – التركي، لخدمة ملفاتها في المنطقة، أسوة بارتهان مصير قطاع "غزة" مع حركة "حماس".

بينما يتولى النظام الإيراني تنظيمي "النصرة" و"حراس الدين" المبايع لتنظيم القاعدة وما يضمانهما من فصائل، وقيادات عليا من بينهم: أبوجلبيب طوباس، وسامي العريدي، وأبو القسام، والعاروري، وسيف العدل، وحمزة بن لادن (خرجوا من إيران مع بداية الأحداث السورية)، تعمل تركيا على استيعاب طرف آخر من الحركات الجهادية في سوريا من جماعة الإخوان المسلمين والسرورية.

وكان أبرز تعبير عن أغراض هذه التحالفات، ما جاء به أحد منظري الحركات الجهادية من مقر إقامته الحالي "طهران"، "مصطفى حامد"، والمكنى بـ" أبو الوليد المصري"، صهر سيف العدل، مؤرخ القاعدة وصديق أسامة بن لادن.

وبحسب ما كتبه في مقال له بعنوان: "الحركة الجهادية أزمة الواقع والبحث عن مخرج" قال: "ما نريد أن نعرفه عن أنفسنا هو من نحن؟ ماذا نريد؟ ثم ما هي إمكاناتنا المتاحة لنا حاليا؟ ما هي مكونات معسكرنا؟ وماذا نريد من كل عنصر من هذه المكونات، أفرادنا وكوادرنا الأصدقاء – الحلفاء.. فمن له نفس مصالحنا فهو من الأصدقاء وربما من الحلفاء، ومن له مصالح تناقض ما نريده فهو من الأعداء".

ووفقاً لقراءة أبو الوليد المصري فإن المعطيات على الساحة السورية التي باتت مستودعاً للجماعات الجهادية الراديكالية تتطلب "التأسيس لعمل جهادي جديد يتناسب والتحديات الراهنة ويتجنب أخطاء الماضي وخطاياه".

الحركة "الجهادية" والتحالف مع طهران

ومن هذا المنطلق يتجلى مؤرخ القاعدة أبو الوليد المصري في صياغة ما يراه التحالف الملائم للحركة "الجهادية" في سوريا بالاصطفاف إلى المعسكر الإيراني في معرض إجابته عن تساؤل وهو: "ما الفرق بين التحالف مع إيران أو مع السعودية في الحالتين نصبح دمية يتلاعب بها لصالحهم؟".

مجيباً عن ذلك بقوله: "ومع أن موضوع التحالف معقد وصعب، إلا أن وجود أخطار تهدد الجميع بشكل واضح تسهل كثيراً قرارات التحالف، وتختصر عملية التعريف بالمعسكرات والبحث عن مسار جهادي جديد يخدم الإسلام ويوجه طاقات الشباب إلى وجهتها الصحيحة ... وفي ظروفنا الإسلامية الحالية فإن التمايز أصبح سهلاً بعد الانسياح اليهودي في جزيرة العرب وباقي الدول العربية ... وهنا فمحاولات التفرد والاستقلال تصبح مدانة، كون الانتماء الشامل سيكون للإسلام كدين وليس كمذاهب أو تقسيمات جاهلية للأجناس والأقوام".

وأضاف: "إذن الصراع القادم قد وصل إلينا بالفعل فإسرائيل لم تعد داخل حدود فلسطين فقط، ولأحجة لمن كان يقول كيف نصل إلى فلسطين حتى نجاهد اليهود المحتلين ... واليهود أكثر تركيزاً الآن على السعودية وجزيرة العرب، ويعتبرون اليمن جزءا من جزيرة العرب، ولابد لهم من تأمينها حتى يأمنوا تواجدهم في السعودية وعلى شواطئ النفط في الجزيرة".

واختتم رؤيته في الكفاح "الجهادي" العالمي بعيداً عن شعار إسقاط بشار الأسد بأن: "القضية المحورية الآن ومستقبلاً هي فلسطين، ووقوف الانسياح الإسرائيلي في المنطقة العربية والإسلامية ومطاردته وتصفيته، وفي خطورة تالية متابعة المطاردة على الأرض الفلسطينية ذاتها... وعلى ذلك فالقضية واضحة والمعسكرات واضحة مع وضد والتحالفات بالتالي واضحة وسهلة وقليلة التعقيد".

نظرية إعادة صياغة التحالفات، وكما يبدو باتت حديثاً شاملاً يدور خلف أبواب مجالس شورى "المجاهدين" في سوريا، وليست من بنيات أفكار أبو الوليد المصري وحده، مما يؤكد دور اللاعبين في توجيه الفصائل المسلحة.

من بينهم كان مقالاً آخر بعنوان "نظرة إلى الداخل السوري" للمهاجر المغربي أنور أديب، رئيس جمعية مغاربة سوريا المعنية بالمقاتلين العائدين إلى المغرب، (التحق بالفصائل المسلحة في سوريا في 2013): "إن الفصائل عليها أن تجد صيغة للاندماج الكلي ضمن جسم يتقدم ببرنامج سياسي، يضمن للسوريين العيش ضمن البلد الواحد والتعايش مع بقية الطوائف والمذاهب".

ليقدم خلاصة نصائحه إلى جبهة النصرة "هيئة تحرير الشام" بـ"أن تعمل مع الأطراف الأخرى على برنامج سياسي يتقاطع مع مصالح الدول الفاعلة في الملف السوري: الروس خصوصاً".

ليتلخص الرهان الأخير في إدلب بمدى قدرة الفصائل المسلحة "الحركات الجهادية"، على التعاطي مع الملف السياسي وتعقيداته، ووضعها أمام اختبارات معقدة تتمثل بمدى قدرتها على إعادة بناء قطاع إدلب.

وليبقى الحديث عن شرعية سلاح حركات الإسلام السياسي في سوريا وجدوى وجوده في أيدي التنظيمات خطا أحمر، كما هو لازال مع سلاح حركة "حماس" على الرغم من الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة.