العدد 2145
الجمعة 29 أغسطس 2014
banner
تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم خالص جلبي
خالص جلبي
الجمعة 29 أغسطس 2014

كتاب “تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم” الذي نشره محمد الرايس عن سجن تزمامارت الذي مات فيه عشرون شخصا في عشرين عاما وكتب عنها أكثر من عشرين كتابا. لكن ما جرى في “تدمر” السورية يحتاج إلى عشرين ألف كتاب.
حتى يمكن فهم الجذور البعيدة لما نرى من فظاعات في سوريا علينا أن نرجع إلى الخلف ثلاثين سنة؟
من كوارث تلك الحقبة الجهنمية التي لم يخلص من قبضتها الشعب السوري قصص لا تنتهي منها قصة الخالة “نور” التي تجاوزت الثمانين ومازالت تنتظر خروج ابنها من السجن منذ ثلاثين عاما. ليس من محكمة وحكم ولكنه رازح في سجن صيدنايا في دمشق. يوم الاثنين 30 يوليو 2012م أرسلت لي ابنتي الصغرى بشرى من كندا تقول إن الخالة نور توفيت ولم تحظ بعد بالاجتماع بابنها.  هل هو محكوم مؤبد؟ لا أحد يعلم وليس من قرار محكمة، بل هي سوريا غابة وأسد وعصابة تسرح فيها الضواري في سفاري مفتوحة.
قصة الخالة نور ليست الحالة النادرة والوحيدة في سوريا.
أنا شخصيا كان لي شرف الاستضافة في سجون البعث أربع مرات مع حفلات التكريم والاستقبال البهية “عفوا التعذيب وتكسير الأسنان وتهشيم العظام”. العجيب كيف كسروا لي نابي العلوي الأيمن أتوقع أن أحد الأوغاد كانت بيده قبضة حديدية؟ نجوت من التهاب الفك في الحبس وتمكنت من إصلاحه في ألمانيا ومازال صامدا بعد مرور 36 سنة؟  ما يشاهده الناس حاليا في الإذاعات عن الفظاعات رأيتها أنا رأي العين؛ فأنا شاهد ومشهود.
ومن الواجب التاريخي أن أفعل ما فعل “خليفة” في كتابه “القوقعة” أو ما فعله “محمد الرايس” في كتابه “تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم” فأكتب ما رأيت.
غطست ليومين متتاليين وأنا أقرأ مذكرات “خليفة” المسيحي الذي اعتقل بتهمة أنه من الإخوان المسلمين! إي والله! وبقي بهذه الغلطة 12 سنة في سجن تدمر بعدها في ثلاثة فروع أمنية فأكمل 13 سنة و3 أشهر و13 يوما.
تحدث في كتابه “القوقعة” عن سجن “تدمر” وسجن “عدرا” في ظل نظام البعث الجهنمي؛ ولكن السجن الصحراوي حيث مملكة زنوبيا له قصة متفردة حيث تم دفن عشرات الآلاف من خيرة الشباب السوري، بأشنع القتلات ليس مرة واحدة، كما حصل في ليلة نحس مستمر فحصدوا أرواح ألف جامعي بما يستحي أمامه سجن بوسليم في ليبيا والجولاغ الروسي والصيني.
مات آلاف الشباب ألف موتة قبل أن يموتوا الموتة الآخرة.
كانت محنة هذا المسيحي أنه تغلف في قوقعة مزدوجة الجدار، من المتشددين الإسلاميين في الداخل، حينما اكتشفوا أنه نصراني “نجس” “كذا” فلم ينقذه إلا جوار بعض العقلاء، والثانية صدفة قادت إلى فتح ثقبة في الجدار، حيث ينام على بطانيات قذرة، مصابا بالجرب والقمل؛ فكان يرى حفلات التعذيب والإعدامات رأي العين، فرأى سادية غير مفسرة، عند أناس سهلت لهم الظروف التحكم في أقدار ومصائر وحياة أناس، فاقتادوا أقواما إلى الموت، قادهم حظهم العاثر إلى هذا القبر الكبير.
أحكام إعدام لا تأخذ من الوقت أكثر من دقيقة، وشباب يخرجون شبه عراة إلى المشانق، قد ألصقت أفواههم بشريط؛ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. ليس أمامهم ما يفعلون سوى استقبال الموت.
وصفهم بأنهم كانوا شجعانا في معظمهم، وإن كان هناك من ارتخت مصرَّاته؛ فسالت محتويات أحشائه فوق رأس الوغد الشانق، الذي يأبى إلا أن يسحب الجثة وهي معلقة في الحبل الغليظ، بعد أن طالت لحظات موته؛ فلا يسترخي بسرعة، كما حصل مع البقية الذين استسلموا للموت.
أعترف للقارئ أنني غرقت في الكتاب ذي الـ 375 صفحة فأنهيته في أقل من يومين، ولكنني دخلت حالة من الغيبوبة، وتدفقت دموعي على خدي ثلاث مرات في ثلاث مناسبات من الكتاب، الذي يصلح أن يخرج فيلما، يمثل أحلك فترة مرت فيها سوريا المعاصرة.
وهو ليس الوحيد في عالم العروبة؛ فهناك من هذه القصص، التي يجدر أن تحتل قائمة أفضل الأفلام، أشير إلى كتاب الإخوان والثورة لـ “حسن العشماوي”، أو كتاب “السجينة” لمليكة أوفقير، أو كتاب الرايس المغربي عن زيارة الجحيم في تزمامارت. أو كتاب “فيكتور فرانكل” “الإنسان يبحث عن المعنى” في ظلمات سجن آوسشفيتز، أو “ماجلان” لستيفان تسفايج. أو العراقي “الجادرجي” الذي سجن هو وزوجته فكتبا معا “جدار بين ظلمتين”. أو كتاب “العتمة الباهرة” لابن جلون.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية