العدد 2147
الأحد 31 أغسطس 2014
banner
مفيش رصيد
ستة على ستة
الأحد 31 أغسطس 2014

خلال تواجدي بالقاهرة أثناء زيارتي لوطني العزيز مصر كنت على موعد مع أحد الأصدقاء وحدثت بعض المواقف التي أجدها تحمل خطورة كبيرة على المجتمع وتؤشر لتراجع لبعض القيم الأخلاقية التي كانت تسود بين المصريين وتميزهم عما سواهم من الشعوب.
قبل الموعد بقليل تعطل هاتفي النقال تمامًا لأسباب خارجة عن الإرادة، وهو ما أدخلني فيما يشبه المغامرات لحرصي على الاتصال بالشخص الذي يفترض أن أقابله بعد قليل لأؤكد على الموعد من ناحية وأبلغه بالعطل الذي حدث لهاتفي من ناحية أخرى حتى لا يحدث أي إرباك بسبب هذا الطارئ.
فكرت في بداية الأمر عن البحث عن المحلات والأشخاص الذين كانوا يقومون بتوفير خدمة الاتصال بالهاتف النقال بمقابل دون أن أجد أي محل لذلك وكأن مثل هذه الخدمة قد ألغيت إما بسبب انتشار الهواتف النقالة بيد الجميع أو بسبب انخفاض تكلفة المكالمة في الوقت الحالي.
ولم يحدث أن عرض علي اي شخص من الذين قمت بسؤالهم عن تلك الخدمة أن اقوم بالاتصال من هاتفه الشخصي، بل اكتفى الجميع بكلمة “لا يوجد”.
أثناء ركوبي لمترو الأنفاق جلس بجواري شخص حسن المظهر ويبدو عليه أنه من طبقة الميسورين وكان يقرأ في بحث يتعلق بالدراسات العليا ما يشير إلى المستوى التعليمي المرتفع لهذا الشخص، فوجدتها فرصة للاستئذان في أن أقوم بالاتصال بصديقي لطمأنته خصوصا أن “المترو” كان في بداية الطريق ولم يكن مزدحمًا كالعادة، لكنني فوجئت برد صادم من هذا الشخص الذي يجاورني المقعد حيث قال لي “مفيش رصيد”.
اندهشت كثيرًا من الرد الذي لم أتوقعه من مثل هذا الشخص وبمثل هذا الأسلوب العنيف دون حتى أن يعتذر بالكلمات المألوفة في مثل هذه المواقف من قبيل “آسف ليس معي رصيدا”، أو “تفضل هذا هو هاتفي لتتأكد بنفسك أنه ليس به رصيد”.
لكني تقبلت الأمر بسهولة وبابتسامة غير مصطنعة تعود إلى أن ما حدث كان أحد الاحتمالات المتوقعة وإن كانت مستبعدة لكنها وقعت وانتهى الأمر مع هذا الشخص إلى هذا الحد.
وبعد وصولي للمكان المتفق عليه لم اجد صديقي الذي انتظرته طويلا دون جدوى مما جعلني مضطرًا لإعادة محاولة الاتصال مرة أخرى للاطمئنان عليه ومعرفة أسباب عدم وصوله في المكان والزمان الذي اتفقنا عليهما مسبقًا، فلجأت إلى أحد الأشخاص المتواجدين بالمكان وكان يحمل في يده هاتفين وليس واحدًا، فرجحت موافقة هذا الشخص، وهو ما لم يحدث أيضًا حيث رد علي قائلاً: “والله الي أحسن مني ومنك مفيش رصيد”.
بعدها وجدت رجلاً في الخمسينيات من عمره ويبدو بشوشًا وسمحًا فاستأذنته في الاتصال بصديقي وكان هذا الرجل عند حسن الظن فقال لي “على الرحب والسعة” وقام مشكورًا بالاتصال بالرقم الذي أريده لكن للأسف الشديد لم يرد الصديق.
بعد أن أخذت قرارًا بالعودة إلى بلدي بعد طول انتظار لهذا الصديق، وجدت أن من واجبي الاطمئنان على صديقي لعل هناك طارئًا حدث له، فوجدت شابًا وسيمًا وكان مبلغ مالي كبير بيده، فسألته إن كان بوسعي أن أجري مكالمة عاجلة إلا أنه انشغل بالرد على مكالمة هاتفية لم تستغرق ثوان ولم يعرض علي ان اقوم بالاتصال رغم أنه لم يكن ممانعًا في البداية لكنه وجد في المكالمة الهاتفية ضالته في الخروج من المأزق الذي سيتسبب فيه إجرائي لمكالمة من هاتفه.
وهنا بدأت مرحلة التساؤلات عن أسباب ما حدث ولماذا تغيرت “طباع” المصريين إلى هذا الحد الذي يؤشر لمظاهر سلبية كثيرة وأزمة أخلاقية واسعة وخطيرة، فربما كان الحدث الذي كنت بصدده ليس خطيرًا، فما بالنا لو كان الأمر يتعلق بما هو أخطر من ذلك، وماذا لو كانت حياة أحد الأشخاص متوقفة على مثل هذه المكالمة الهاتفية، ولماذا بات المصريون ينظرون بريبة وشك إلى بعضهم البعض إلى هذا الحد، ولماذا لا نفترض حسن النية في الذي يطلب المساعدة والعون، صحيح أن هناك متسولين ولكن هناك من الصادقين والمحتاجين للمساعدة الكثير، وهل ما نحن فيه بسبب الفقر وسوء الحال الذي يدفع صاحبه إلى عدم التفريط في أي مال حتى لو كان قروشا صغيرة لا تسمن ولا تغني من جوع أم أن الأمر مجرد تراجع في القيم والأخلاق خصوصا أن من رفضوا المساعدة ليسوا فقراء كما يبدو لي على الأقل.
وبعد أن وصلت إلى منزلي وعاود هاتفي العمل من جديد، بادرت بالاتصال بالصديق للاطمئنان عليه ومعرفة أسباب عدم حضوره في الموعد، فرد علي قائلاً: “كنت نائمًا ولم أستطع المجيء”، وعندها ايقنت أننا أمام أزمة أخلاقية وليس معضلة معيشية.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية