العدد 2207
الخميس 30 أكتوبر 2014
banner
عللنا البائتة من الشريحة الصامتة غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الخميس 30 أكتوبر 2014

في الكثير من الأحيان، خصوصا عندما يكون هناك طرح وطرح مضاد على المستوى السياسي، يستنجد الطرفان بالفئة الصامتة التي لم تبد رأيها، وهذا الاستنجاد لا يأتي ليفصل فيما اختلف عليه الفريقان، في الأساس فإن كلاًّ من الفريقين يريد أن يثقّل موازينه بانحياز المزيد من أبناء هذه الشريحة، أو الفئة، أو الطبقة الصامتة من الناس.
الحديث عن الطبقة الصامتة هو حديث عن هلام حقيقي، فلا يوجد هناك تعريف واحد وموحّد لمعنى هذه الشريحة، فهي ربما تكون صامتة في السياسة، متحدثة في الفن، عازفة عن الدخول في الجدل العلمي، ولكن أفراداً منها يجوبون الشوارع لدعم مرضى البهاق (مثلاً)، فهي ليست شريحة تنتمي إلى طبقة اجتماعية، ولا إلى أصول معينة، ولا تربطها روابط ووشائج كالقربى، وليس أفرادها ينتمون إلى دين واحد، ولا واحد من المذاهب، إنها مزيج من كل هؤلاء، لأن الصامتين ليسوا كتلة صلبة يمكن تعريفها وقياسها والحدس بمدى قدرتها على الصمود وصلابتها في وجه الأنواء. إنها أمّ لا يجمعها أي جامع سوى الصمت المطبق.
جاء في تعريف للفئة الصامتة بأنها فئات داخل هذا الجمع من الصامتين: “فئة أولى مقاطعة تعمّداً نتيجة عدم انتماء لأيّة توجهات فكرية تتواجد في فترة زمنية معينة. وفئة ثانية غير واعية، وثالثة لا تنتمي لفكرة العمل السياسي كونها غير متابعة له على اعتبار أن أفرادها تربوا ضمن مجتمع عاش من دون ممارسة العمليات الانتخابية، ورابعة تعمدت المقاطعة لعدم الرضا عن أداء مجلس النواب في مجمله”. هذا إذا ما كان أفراد هذه الطبقة قد اختاروا الصمت عن قناعة ذاتية، وليسوا مجبرين عليها، لأنهم حينذاك يكونون كمن استلبت إرادته قهراً.
هلام هذه الطبقة الذي لا يمكن السيطرة عليه، يتألف من أناس ملّوا العمل السياسي (إن كان الصمت سياسياً فقط)، ورأوا أن الدنيا أوسع من المناطحات السياسية التي أصبحوا فيها “وُعولاً” يدكّون صمّ الصخر بقرونهم، فتتكسر القرون ولا يبقى في الصخر إلا خدش. ومنهم أناس هالهم ما اكتشفوه من انزلاق رفاق الدرب إلى مهاوي الردى، واستسلموا للمغريات، فإذا كان هذا هو حال القيادات، والقدوات، والذين كانت خطبهم تلهب الحماس، وتحرّك الجماهير، ويشعرون بأنهم على وشك ملامسة أحلامهم، فبمن يثق المرء ويقتدي؟!
من أفراد الفئة الصامتة من لديهم آراء وجيهة في كل ما يجري حولهم، ولكنهم يبقونها للتداول في مساحات ضيقة، ليس خوفاً على أنفسهم أو على أفكارهم، بل أحياناً ترفّعاً عن رفع الصوت والاستعراض بها كما يفعل “السُّوقة” في صراعهم وتزاحمهم في الفضاءات العامة وكأنهم في حلبة صراع الديوك.
والفئة الصامتة هذه، أي التي ليست من المشاركين في الحياة السياسية العامة، ليست بِدعاً من أمر البحرين السياسي ولا من أمر العالم بأسره، لأن بعضاً من الكتاب والمشتغلين في هذا المضمار يلقون كل اللائمة على الطبقة الصامتة، ويتحدثون أحياناً باسمها، ويدافعون عن انكفائها، أو يحثونها الخروج من صمتها وأخذ موقف،  أي أخذ موقف الكاتب والمحلل وليس أي موقف آخر. ذلك لأن الكثير من دول العالم لديها هذه الفئة أو الشريحة أو الطبقة، وبشكل كثيف يكاد يصل إلى حوالي 40 % من إجمالي المواطنين وربما أكثر، فترى الانتخابات على أشكالها كلها، وعلى مستوياتها المتنوعة لا تتجاوز كثيراً نصف عدد من يحق لهم التصويت، ولا يُعتبر هذا فشلاً للعملية الديمقراطية، لأن الأسباب متعددة، ومن لا يشارك فقد اختار التنازل طوعاً عن حقه، وعطل من تلقائه صوته، وعليه بالتالي القبول بما سيتألف منه برلمانه.
بيد أن الظروف المختلفة بين الدول المتأخرة، “العالمثالثية”، ودول المركز والأخرى المتقدمة، إذ إن في تلك الدول البنيان الأساسي للدول قد تم، والعملية الديمقراطية قد تغلغلت في شرايين المجتمع، وباتت تحرّكهم ويتحركون بها، وتخضع لها الأعناق، ويضع كل ذي قلم قلمه إن حاججهم أحد بانتهاك حقوقه، ويصعب التعسف في حق الناس (وإن لم ينته ولم يتوقف وسيستمر)، وينال أصحاب الحقوق حقوقهم من أفواه التنانين، وإن لم ينالوها، فلا أقل أن يكونوا قد سجلوا المواقف التي تمنع تكرار الوقائع مستقبلاً حماية للآخرين. فإذا ما كسل البعض هناك عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع، أو وجد البعض ما هو أهم من الانتخاب والتصويت، أو اعتقد البعض أن الانتماء السياسي والالتزام بالحزبية ليس من الأولويات، فالعربة على السكة، والبناء شبه مكتمل، وإن احتاج إلى عزم فهناك من يقوم به على أساس أنه “فرض كفاية”، فتتحول أنظار الجماهير إلى الإبداع، والاختراع، وحتى إلى اللهو والترفيه، فليس كل إنسان قد خلقه الله واستعدّ ليكون سياسياً.
ولكن في مجتمعات تبحث عن النهوض السياسي، وتتعلم أبجديات العمل المنظم، وتحاول احترامه، وتنسى أنها تحولت إلى الديمقراطية فتتذكر، ويتقدم أناس إلى التصدي للعمل السياسي تحت أغطية مختلفة لا علاقة لها إلا بالعاطفة وليس بالسياسة، وتكثر الألاعيب المفضوحة، ويسيل فيها المال السياسي في الطرقات، ويقل فيها الكلام المباح إلا على طريقة المشي في حقل الألغام، هذه المجتمعات تحتاج أن تقلّص “الفئة الصامتة” إلى الحدود الدنيا، ولو لحين، حتى تستكمل هذا البناء الذي هو اليوم “فرض عين” على الجميع، وحتى يطمئن المجتمع أن عجلات عربته قد استقرت، وإيقاعه قد انتظم، وتجربته آخذة في التماسك، حينها يمكن الانصراف كلٌّ إلى شأنه حينما يكون للديمقراطية مجتمعا بأكمله يحميها ولا يرتضي أن يتراجع عنها.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .