العدد 2162
الإثنين 15 سبتمبر 2014
banner
على ضفاف عمرو موسى غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الإثنين 15 سبتمبر 2014

الجلوس إلى مطلع في حجم عمرو موسى، وزير خارجية مصر لعشر سنوات، وأمين عام جامعة الدول العربية لعشر سنوات أخرى، ومشارك في الحراك الذي حدث في مصر في عدد من مفاصله، يعدُّ إغراءً لأي متتبع للأوضاع الراهنة في المنطقة، خصوصاً في حالة اللايقين التي تعيشها الدول العربية حالياً، والتي غالباً ما تشكو من المؤامرات الخارجية، وتداعي الأمم عليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. هذا الجلوس الذي عبّر عنه الكاتب الكويتي فؤاد الهاشم أنه إزاء عمرو موسى وكأنه إزاء كنز من الذهب والمجوهرات لا يدري من أين يبدأ الغرف منه... وهذا ما يغري بمشاركة الهاشم في الغرف من ضفاف المحاضرة التي ألقاها في مركز عيسى الثقافي مساء الجمعة الماضي، بدعوة من جمعية الصحفيين البحرينية، وربما نغادر الضفاف إلى ما هو أعمق وأغزر.
من جملة الأمور التي استوقفتني في المحاضرة، قول المحاضر إن الثورات (ويقصد الثورة المصرية تحديداً) لم تأت لتغير رجلاً برجل، وإنما لتغيير يبسط ظلاله على كل المجتمع الذي شهد تراجعات على المستويات كافة: الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والصحية، والتعليمية، والقومية... الخ. وهذا هو مبدأ الثورات الحقيقية. فهي لا تنزع زيداً لتنصّب عمرواً، بل تقتلع جذور النظام الذي أفرز زيداً، أو الذي أسس له زيد، ومتّن أركانه، وأعلا بنيانه، ليأتي عمرو من رحم هذه الثورة، وقد علم مطالبها، وكان من الثائرين على السابق، لا المتمرغين في نعمائه لعقود طويلة، ثم يخلع أردية الماضي، ويستبدل الماكياج بآخر ليكون رجلاً لكل زمان. فلقد أنهى عبدالناصر رجالات فاروق ووطن رجاله مكانهم، وقام الرئيس الراحل السادات في بداية حكمه بتصفية من أسماهم “مراكز القوى”، ويقصد بهم رجال سلفه، ليبدأ حكمه بمن أراد. ولسنا هنا في صدد تقييم تجربة السادات أو سلفه أو حتى خلفه، ولكنها طبائع الأمور، فمن أراد أن يبدأ عهداً جديداً عليه أن يؤسسه مع أناس جدد يتعاطون معه في الفكر، ويتساوقون معه في الأهداف، لا أن يخترق الرجال أنفسهم عهوداً مختلفة التوجهات، وفي كل مرة يدّعون أنهم رجال المرحلة!
وإن كان موسى مليء بالأمل في مستقبل الأمة العربية، ويفرّق بين الآمال والأماني، فإنه إلى الآن، لا تتوفر هناك مقومات لهذا الأمل الذي يدعو إليه في الأمة العربية، وهذا ليس كفراناً بها، ولا بإمكانياتها، ولا بالأمل فيها، ولكن الأوضاع القائمة اليوم في الأمة العربية تحتاج إلى “العمل” أكثر منه إلى “الأمل”، عملٌ جاد وصارم على أمل الوصول إلى بدايات (مجرد بدايات) صحيحة يمكن من بعدها التحرك إلى الأمام. فمادامت هذه الأمة تدير ظهرها للعلم، والتاريخ، ولا تأخذ من التكنولوجيا إلا ما يعينها على قمع شعوبها، ولا تطلب من العلم إلا بمقدار ما يستطيع أبناؤها فك الخط، ومادام العمل جاريا وبكل قوة وجدّية وإصرار على توسيع الهوّة والفجوة بين طبقات المجتمعات العربية، اقتصادياً ومن ثم اجتماعياً، وثقافياً، ليبقى “اللي فوق فوق... واللي تحت تحت”، فإن رحيل زيد ومجيء عمرو لا يعني الكثير.. بل لا يعمل إلا على زيادة جرعات اليأس بين أبناء الأمة، خصوصاً الذين يتوصلون إلى قناعة أن لا فائدة من كل ما يعملونه، وهذا يدفعهم إما إلى الانتحار أو الانحراف المادي أو المعنوي.
إن للأمل علامات ومقدمات وإرهاصات، ويبدو أنه من المبكر الركون إليه في هذه المرحلة التي تحتاج إلى “البصيرة” التي من خلالها يمكن للنظام (أي نظام كان) أن يحدد من خلالها أولوياته، ويضع خططه واستراتيجياته، ويبدأ العمل بفريق مؤمن إيماناً صادقاً وراسخاً بالتوجه الجديد، لعل الأمل ينبجس من خلال خطوات تعيد للناس حيويتهم المفتقدة. ولكن جميع الدول العربية التي تعرضت للتغيير الكلي أو الجزئي في السنوات القليلة الماضية، لم تستطع تقديم أية موجبات للأمل المنتظر، فهي في حال تعثّر مستمر، واستنزاف لا يتوقف على كل الصعد، لا يُعلم متى نصل إلى القاع حتى نتأكد تماماً من حاجتنا الملحة لكي نركله بأقدامنا وننطلق إلى السطح كخطوة أولى، قبل السباحة مع الأمم السابحة. وهذا لا يكون إلا بأنظمة تستمد قوتها من شعبها الذي تطرح فيه العدالة، ويوقن أفرادها أنهم غير خالدين في الحكم، فعليهم أن يبذلوا قصارى جهدهم في فترة زمنية محددة، ويتركوا المقاعد لآخرين في تداول سلس وسلمي للسلطة لكي لا تنتهي إلى عضّ بالنواجذ على الكراسي والمناصب، وأن تكون المشاركة حقيقية في صنع القرار الوطني ليتقاسم الجميع المسؤولية، ويكونوا آباء الإنجازات، وآباء الإخفاقات أيضاً.
ونتقدم قليلاً في بحر عمرو موسى، إذ إنه يتمنى، أو يتوقع أن تجلس الشعوب العربية، أو الفعاليات العربية، وتصيغ مستقبلها، وتضغط بالتالي على شعوبها من أجل تقارب أكثر، وتنسيق أعلى، ومستقبل أنصع للأمة. وهذا أمر جميل في حد ذاته، ومطلب تنادت به الأمة منذ قرن من الزمان، منذ سايكس بيكو التي تحدث عنها المحاضر، والتي صارت الأمة بموجبها أمماً، وارتفعت الأسلاك الشائكة بين أراضيها، وصار القتال على أشبار الأرض مشروعاً وشرساً بين الدول العربية، وخائراً مع العدو الصهيوني التي التهمت من دول أربع ما التهمت. ولكن تجاربنا في غاية الغرابة، هي نفسها الغرابة التي اعتلت ملامح النائب البريطاني المتعاطف مع العرب جورج غالاوي، حينما أجاب سائلة عربية بأن هذه الأمة بإمكانها أن تجتمع، وتحدد عدوها وأولوياتها ومستقبلها، ما الذي يمنعها؟ لماذا تلقي مشاكلها على الآخرين وتدخلاتهم؟ فإذا لم تستطع أنظمة بأجهزتها ومستشاريها ومخططيها وجحافلها واقتصادياتها وعقولها المؤسسية أن تتقارب ولو لبضع خطوات، وأن تهدم جدران الوهم والشكوك فيما بينها، فهل يمكن أن تؤثر عليها نخبٌ لم تنقطع مناقشاتها ومؤتمراتها في توصيف حال الأمة منذ حوالي مئة عام من دون أية فائدة تذكر، إذ القطعان في وادٍ والرعيان في وادٍ، ولا توجد قنوات مفتوحة بين الطرفين.
لا أذكر من القائل إن المسافة بين النظرية والتطبيق كالمسافة بين الحلم والواقع. ولكن الكثير من النظريات جرى تطبيقها، بينما الأحلام العربية استحالت إلى كوابيس في معظمها.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية