العدد 2148
الإثنين 01 سبتمبر 2014
banner
هذه الأوعية.. فمن يملؤها.. وبماذا؟ غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الإثنين 01 سبتمبر 2014

إذ كنت أتمشى مع أحد الأصدقاء بالقرب من بضعة مقاهٍ كتلك التي انتشرت كالنار في الهشيم في هذا البلد، حتى ارتفع فجأة صياح وصراخ من داخل أحدها. فإذا بفريقين إسبانيين في مباراة لكرة القدم، وجمع كبير من الشباب يتفرج على المباراة والحماس قد أخذ بهم كل مأخذ، فكان هذا الصياح على هجمة فشلت، وهدف أضاعه أحد المهاجمين، واستمر اللعب، ولكن الشباب لم يهدأوا فكانوا جالسين على أطراف المقاعد بالكاد، وعيونهم مسمّرة في شاشات التلفاز التي رصّعت المقهى، وتشعر بالفعل أنهم مأخوذون بشكل كامل لما يشاهدون.
في الحقيقة، فليست وحدها هذه الثلة من الشباب الذين يتفاعلون بشكل يبعث الريبة مع المباريات بشكل عام، ومع مباريات تجري في دول أبعد ما تكون عنا، وأبعد ما نكون عنها. حتى لوى صديقي شفتيه قائلا: “معقول هذا التفاعل مع أشخاص ومباريات لا علاقة لنا بها إلى هذا الحد؟!”.
نعم، معقول تماماً هذا التفاعل لأن الشباب طاقة عظيمة، ونشكر الله أنهم بكامل طاقتهم لم تراكمهم التكنولوجيا إلى حد الانفصال التام عن محيطهم، وتقوقعهم على ذواتهم. وأنهم على الأقل يلتقون مع بعضهم، وربما يناقشون من المواضيع ما يكون في أعراف البعض منا “تافها” وسطحيا وبعيدا كل البعد عن واقعنا المحلي أو ما يحيط بنا. وأنهم يحفظون أسماء اللاعبين الأجانب، وأسعار انتقالاتهم، ومن أي نادٍ قدموا وإلى أي نادٍ سيرحلون، والكثير الكثير من تفاصيل حياتهم الخاصة والعامة، لا لشيء إلا لأنهم فقط ضحايا.
نعم، هم ضحايا إعلام هادر لا يسكت ليلا ونهارا، إعلام عالمي ومعولم لا تهمّه انتماءاتك ودينك وعقيدتك ولونك وعرقيتك، لا تقيّده الجغرافيا، ولا يدندن بالتاريخ، ولا يشغله ما يقال عنه، ولا يلتفت إلى الدمار الشامل الذي يخلفه، إنه إعلام يضخ عشرات الملايين، ويستعيدها أرباحاً بمئات الملايين، لا يمكن للمحطات الصغيرة الخاصة، ولا تلك الحكومية البليدة أن تجاريه وتباريه في ذهابه الموغل في كسر جميع الممنوعات والتابوهات، والحفر عميقاً لإزالة طبقات الإنسانية من البشر وإظهار ملامح الجشع والطمع فيهم، والخوف والرعب، والقسوة والحيوانية، وكل ما يمكن أن يكون مغايراً، فهذا ما يدرّ الأموال، ويدير محركات الإنتاج، الخروج المبالغ فيه والمقزز عن كل القيم التي كانت يوماً ما من الفضائل، وصارت اليوم رديفة للتخلف والتحجر، وانقلبت هي العيب الذي يفصل من يتمسّك بها عن محيطه العام. إعلام يؤمرك العالم شاء أم أبى، ويقدّم كل ما يمكن أن يجذب أموالاً. تريدون كرة قدم؟ خذوا كرة قدم حتى الثمالة.. تريدون أفلاماً؟ جريمة؟ رعباً؟ جنساً؟ حروباً؟ فكل ذلك متوفر وبكثافة وتنوع، حتى لا يمكنك أن تجد وقتاً لترى فيلماً مرتين، ولا يعاد عرض المسلسل من جديد في أحيان كثيرة لأن قائمة الانتظار طويلة، وماكينات الإنتاج لا تتوقف عن الهدير... أي شيء يمكن تسويقه وبيعه، بعد أن يدخل في أفضل مطابخ الكتاب والمخرجين والمصورين والمنتجين والتقنيات العالية والصوتيات المبهرة والألوان القوية، حتى الفضيل إن كانت تجلب أموالاً فأهلاً بها.
نعم، ما الذي ننتظر من شباب اليوم الذين رضعوا التلفزيون ولم يُفطموا بعد من الإعلام الغربي؟ غابت عنهم المشاريع الوطنية الجامعة؟ ظللتهم كآبة الخيبات القومية والهزائم المنكرة والمتتالية؟ أعشت أبصار آبائهم كل هذه الأحلام التي تبرق بالكاد وتنطفئ، وما إن يلاحقوا حلماً، ويتمسكوا ببوارق الأمل، ويتشبثوا بذيول انفراجة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، حتى تستحيل إلى كارثة، وتنطفئ سريعاً نظراً لأنها لم تكن تمتلك الأكسجين الكافي لكي تتنفس وتعيش وتشتعل، ثم ننتظر من الشباب أن يكونوا واعين بقضاياهم والتحديات التي تواجههم، وأن ينتبهوا من الخدر الذي لا يجعلهم يتحركون بجدية ابتعاداً عن السكين الحادة القريبة جداً من الرقاب.. كيف؟ والمسألة ليست متعلقة بالشباب وحسب، بل باتت تنخر الكثير من المجتمعات على مختلف تدرجاتهم العمرية.
نعم، يقول البعض: “أليس اللهو بالكرة - تفرّجاً على أقلّ تقدير - خيراً لهم من الانزلاق في منظمات الرعب والقتل العشوائي التي هي صنيعة الفراغ الفكري وتشرذم الأمة؟ فلنرضَ إذاً بأهون الضررين، وأقل الشرّين، وأسهل الطريقين حتى نضمن عدم تحولهم إلى مجرمين يستسهلون القتل والدمار، برابرة ينتمون إلى عصور ظلامية حيث لا بصيرة ولا غد، وحيث المتع الجسدية والحسية تتمثل في حزّ الرؤوس من دون تمييز.. وكأن الدنيا خلت إلا من هذين الطريقين، إما الإجرام وإما الذوبان في العبثية.
إن أهم علامتي سؤال أمام الباحثين هما: (لماذا؟) حتى يجري التفسير والتحليل لأية مشكلة. و(كيف؟) حتى يتم وضع حلول للمشكلة التي جرى تفسيرها. وإذا كان ما تقدم لا يطرح إلا نتفاً من المشاكل الأساسية التي تواجهها أجيالنا المقبلة، والتي عليها المعتمد والاتكال، وبها تُربط عمليات جرّنا من الوهدة التي وصلت إليها المجتمعات النامية، العربية منها وغير العربية، وعليها تُعقد الآمال في أن يكون غدها أفضل من يومنا، وأمس آبائنا؛ وهي إجابات أولية، وربما سطحية في نظر البعض، ومتعجلة في نظر آخرين، فلزامٌ علينا أن نضع (كيف؟) أمام أعيننا حتى يمكن أن نعالج هذه المخاطر من دون تأخير. إنها ليست مشكلة الحكومات وحدها، لأنها إن لم تكن إرادة جامعة فإنها لن تؤتي ثمارها. وإن لم يتصدّ لها المجتمع الذي يستشعر بها حقيقة، ويدرك المخاطر التي عليه مواجهتها، ويرى بعينيه الحال الذي يسوء ويسوء من دون أن ينهض واقفاً على قدميه ليقاوم هذا الانحدار؛ فليس عليه أن يلوم أحداً، ويكتفي بـ “ألم نقل لكم...”، فهذه ليست من قبيل “فرض الكفاية”، بل هو “فرض عين” لا يغادر أحدا منا... فرض علينا، كحكومات وكمؤسسات مجتمع مدني وكأفراد، أن نملأ أوعية الشباب بما نريد، لأن تخلينا يعني أن نتركها ليملأها الغير بما يشاء... وحينها ليس لنا إلا الغرق في اللوم والنحيب.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية