في زمنٍ تتسارع فيه خطوات التكنولوجيا وتتعدّد وسائط التواصل، قد يُخيل إلينا أننا أصبحنا أكثر قربًا وتواصلًا. غير أنّ الواقع يحكي لنا حكاية أخرى، حكاية عزلة ناعمة تسللت إلى البيوت البحرينية، ترتدي ثوب الحداثة، لكنها تقطع أوصال القربى وتُضعف وشائج المودّة. إنها العزلة الرقمية، الوجه الآخر لحياةٍ متصلة بالشبكة، ومنفصلة عن الأحبة.
في كثير من البيوت، يجلس الأب على هاتفه يتابع الأخبار أو يرد على رسائل العمل، والأم تقلب في صفحات التواصل باحثة عن لحظة هروب من الروتين، بينما ينشغل الأبناء بتطبيقات الألعاب أو منصات الفيديو، وكلٌّ في فلكٍ يسبحون. الحوار بات مقتضبًا، النظرات قلّت، وضحكات المجالس غابت، وحلّ محلها صمتٌ تتخلله أصوات الإشعارات والتنبيهات. العائلة التي كانت في الماضي تتبادل القصص والضحكات حول مائدة الطعام، أصبحت الآن جسدًا بلا روح.
قد لا يكون الهاتف في ذاته عدوًّا، لكن الإفراط في استخدامه بلا ضوابط حوّله إلى حاجز زجاجي بين القلوب. حين لا يُرشد الآباء أبناءهم إلى الاستخدام المتوازن للتقنية، تتحوّل الأجهزة من أداة نافعة إلى فاصل عاطفي. العمل، الدراسة، الهموم اليومية.. جميعها دفعت الأفراد للبحث عن ملاذ سهل في العالم الافتراضي، مهملين العالم الواقعي. نجهل غالبًا كيف نستخدم هذه الوسائل دون أن تبتلع لحظاتنا الثمينة، أو تضعف صِلاتنا الإنسانية. العزلة الرقمية لا تقتل اللحظة فقط، بل تضعف مع الزمن بنية الأسرة النفسية والاجتماعية مسببه قلة في التواصل، والبحث عن الاهتمام خارج جدران البيت.
أبٌ لا يفهم لغة التكنولوجيا، وابنٌ لا يفهم لغة المشاعر، حتى إن اجتمعنا في غرفة واحدة، قلوبنا قد تتباعد إن لم يكن بينها حديثٌ أو نظرة حانية.
لا يُطلب منّا هجر التقنية، بل التوازن في التعامل معها، لتعود بيوتنا عامرة بالدفء، ونعيد فيها الحوار والضحك، دون شاشات، لا تكتمل إلّا بحضور القلوب قبل الأجساد، والقيام بأيّ فعل يمكنه أن يُعيد بناء الجسر بيننا.
ليست العزلة ما يُفرض علينا، بل ما نختاره بأنفسنا عندما نُعلي شأن الأجهزة فوق الإنسان. فلننظر في أعين من نحب، قبل أن نُدمن النظر إلى الشاشات. ولنجعل من التقنية وسيلة للوصل، لا سببًا للقطيعة. ففي زمنٍ كثرت فيه الاتصالات، نحن بحاجة ماسّة إلى عودة الوصال.
كاتبة بحرينية