من دون تعثر بين منامتين، منامة الرقدة الأخيرة ومنامة الحياة الوثيرة، منامة الجرافات التي تؤرق مخادع الموتى، ومنامة الفرحة المستدامة وهي تقدم أحلى ما عندها للمواطن والزائر والمقيم، منامة الدموع العزيزة، ومنامة الضحكات الهادرة، مفارقة يا ترى أم تقاطع طرق، خلاف في الرأي أم مجرد وجهات نظر، تلاقح أو تضارب أفكار، أم تلاقح أو تضارب حقائق وخوارزميات؟
إنها الغربة التي لوحت لصديقي العذب وكاتبي المبدع ياسر سليم بمنديلها المبلل بالدموع، كان ذلك قبل أن يودع محروسة بلاده إلى محروسة عمره، وقبل أن تفترق الأيادي المتشابكة لتلتقي بالأيادي المتفرقة، إنها سنة من سنن الحياة أن نودع عزيزًا كان هكذا بحق، وأن نقول له إلى اللقاء ونحن نعلم أن اللقاء قد يكون مستحيلاً، وأن ندعي رباطة الجأش والدموع تسبقنا إلى عيوننا المجهدة. لم أكن أتمنى يا صديقي أن أكتب هذه الكلمات وتكون أنت المقصود بها، فقد تعاهدنا على العمل تحت سقف صاحبة الجلالة البحرينية، وتعمدنا أن يكون الخليج سماءنا، وأرض الخلود مآبنا، لكن تأتي الرياح بما لا نشتهي، وتنكس الأعلام من فوق الصواري قبل أن تقول الريح العاتية كلمتها الأخيرة، فمرحبًا بك يا صديقي مودعًا إياي من بلاد الشمس المشرقة إلى كنانة الله في أرضه، ومن رحاب دلمون البهية إلى بوابات القاهرة العصية، ومن غصة النفس عندما تبلغ الحلقوم إلى طلقة الروح عندما تتحرر من أسر الجسد.
هكذا تخيلتك يا صديقي أو شبه لي بأن من يذهب لا يعود، وأن من يعود لا يكون طبق الأصل مثلما كان، فأنا أريدك ها هنا كما أنت، أريدك هكذا من دون رتوش، أو مساحيق تجميل، أريد ضحكتك العذبة، ويداك عندما تصف الأشياء بطلاقة أهل الذكر، ونظارتك البديعة وهي تتحرك بالوكالة عن عينيك المتعبتين، ورباطة جأشك وأنت في كامل رونقك المهني محتجًا علَيّ "السيستم"، ومتوافقًا مع من وضع يديه في خلطة آخر الليل قبل أن تمثل الصحيفة للصدور. ملحمة تنبت ورودها على خديك في آخر المساء، والجميع يكون قد حزم أوراقه وهواتفه وبدأ في الحديث عن أي شيء غير الصحافة، عن متاعب الالتقاط العصيب لكلمة ضرورية كان يستحقها "المانشيت"، لجملة مفيدة كان يجب أن تتضمنها مقدمة القصة التفسيرية لحدث كان على وشك الحدوث.
ونظل نقضي آخر الليل في مقهى نصف شعبي على ضفاف الخليج العتيق، وتنتهي رحلة كل يوم وكل منا يقول للآخر هل تحتاج أي شيء يا صديقي، فيرد الصديق التحية بأحسن منها وينصرفان إلا من صوت كروان ضال وهو يشكو الملك لصاحب الملك: "لبيك لبيك أيها الطائر العزيز، ما أحب صوتك إلى نفسي، إذا هدأ الكون، وجثم الليل، ونامت الحياة، وانطلقت الأرواح في هذا السكون المظلم، آمنة لا تخاف، صامتة لا تسمع".
كاتب بحريني