صفية كانو... نموذجا

| زهير توفيقي

ليس‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يرحل‭ ‬يُفتقد،‭ ‬لكن‭ ‬بعض‭ ‬الراحلين،‭ ‬حين‭ ‬يغيبون،‭ ‬كأن‭ ‬الوطن‭ ‬نفسه‭ ‬ينكفئ‭ ‬لحظة‭ ‬صمت‭. ‬صفية‭ ‬علي‭ ‬محمد‭ ‬كانو،‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬القلائل‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يشبهون‭ ‬أحدًا،‭ ‬ولا‭ ‬يخلفهم‭ ‬الزمان‭ ‬بسهولة‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬الراحلة‭ ‬شخصية‭ ‬عامة‭ ‬عادية،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬فاعلة‭ ‬خير‭ ‬عابرة،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬امرأة‭ ‬كرّست‭ ‬حياتها‭ ‬لقيمة‭ ‬سامية‭ ‬اسمها‭ ‬“العطاء”،‭ ‬وسارت‭ ‬بها‭ ‬بثبات‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬صخب‭ ‬إعلامي،‭ ‬ولا‭ ‬عدسات‭ ‬تصوير‭ ‬وظهور‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬كما‭ ‬تتنفس‭: ‬بهدوء،‭ ‬وبلا‭ ‬مقابل‭.‬

في‭ ‬زمن‭ ‬كثرت‭ ‬فيه‭ ‬الضوضاء‭ ‬وقلّ‭ ‬فيه‭ ‬العطاء‭ ‬والإخلاص،‭ ‬كانت‭ ‬صفية‭ ‬كانو‭ ‬نموذجًا‭ ‬استثنائيًّا‭ ‬للمرأة‭ ‬البحرينية‭ ‬التي‭ ‬فهمت‭ ‬المواطنة‭ ‬على‭ ‬حقيقتها‭: ‬مسؤولية‭ ‬لا‭ ‬ترف،‭ ‬وعمل‭ ‬لا‭ ‬شعار‭. ‬لقد‭ ‬أسهمت‭ ‬الراحلة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬أجنحة‭ ‬لمرضى‭ ‬السرطان،‭ ‬ومراكز‭ ‬لكبار‭ ‬السن،‭ ‬وأسست‭ ‬مركزًا‭ ‬للفنون‭ ‬والحرف‭ ‬اليدوية،‭ ‬والقائمة‭ ‬تطول‭. ‬صفية‭ ‬الإنسان‭ ‬لم‭ ‬تترك‭ ‬بابًا‭ ‬للخير‭ ‬إلا‭ ‬طرقته،‭ ‬ولا‭ ‬مبادرة‭ ‬إنسانية‭ ‬إلا‭ ‬وساندتها،‭ ‬وكانت‭ ‬دائمًا‭ ‬الأقرب‭ ‬للفئات‭ ‬التي‭ ‬قلما‭ ‬يلتفت‭ ‬لها‭ ‬أحد‭. ‬لقد‭ ‬عرفت‭ ‬البحرين‭ ‬“صفية”‭ ‬كأمّ‭ ‬للقلوب‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬سيدة‭ ‬أعمال،‭ ‬وكصاحبة‭ ‬رسالة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬صاحبة‭ ‬مبادرات‭. ‬لم‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬التمكين،‭ ‬بل‭ ‬مارسته،‭ ‬دعمت‭ ‬المرأة‭ ‬البحرينية‭ ‬عمليًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تدريبها،‭ ‬وإفساح‭ ‬المجال‭ ‬لموهبتها،‭ ‬وتشجيعها‭ ‬على‭ ‬ريادة‭ ‬الأعمال‭. ‬كانت‭ ‬صفية‭ ‬سندًا‭ ‬لجمعيات‭ ‬ومؤسسات‭ ‬لا‭ ‬تُعد،‭ ‬منها‭ ‬جمعية‭ ‬البحرين‭ ‬الخيرية،‭ ‬ومبادرة‭ ‬“ابتسامة”‭ ‬لأطفال‭ ‬السرطان،‭ ‬وفعاليات‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬قائمة‭ ‬بفضل‭ ‬دعمها‭ ‬الكريم‭ ‬والسخي‭ ‬والمستمر،‭ ‬وأنا‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬بأن‭ ‬كرمها‭ ‬طال‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الخيرية‭ ‬للمجتمع‭ ‬البحريني‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الإعلان‭ ‬عنها‭.

على‭ ‬المستوى‭ ‬الشخصي‭ ‬لم‭ ‬يجمعن‭ ‬بالراحلة‭ ‬الكريمة‭ ‬تواصل‭ ‬مباشر،‭ ‬لكن‭ ‬يكفيني‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أتابع‭ ‬بإعجاب‭ ‬ما‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬نبيلة،‭ ‬وأن‭ ‬زوجتي‭ ‬–‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تربطها‭ ‬علاقة‭ ‬وطيدة‭ ‬بها‭ ‬–‭ ‬كانت‭ ‬تنقل‭ ‬لي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التفاصيل‭ ‬عن‭ ‬حياتها‭ ‬ومواقفها‭ ‬النبيلة‭ ‬ومبادراتها‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُنسى‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬رحيلها‭ ‬خلف‭ ‬أثرًا‭ ‬بالغًا‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬جميع‭ ‬أفراد‭ ‬عائلتي،‭ ‬لما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬مكانة‭ ‬خاصة،‭ ‬إذ‭ ‬إنهم‭ ‬يعتبرونها‭ ‬مثل‭ ‬جدتهم،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬كثيرة‭ ‬السؤال‭ ‬عنهم،‭ ‬بل‭ ‬تحرص‭ ‬على‭ ‬متابعة‭ ‬جميع‭ ‬أحوالهم‭ ‬وحتى‭ ‬كانت‭ ‬تدعوهم‭ ‬لزيارتها‭ ‬في‭ ‬منزلها‭ ‬العامر‭.‬

‭ ‬إن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬صفية‭ ‬كانو‭ ‬ليس‭ ‬رثاءً،‭ ‬بل‭ ‬شهادة‭ ‬حب‭ ‬وامتنان‭ ‬ووفاء‭. ‬شهادة‭ ‬نقول‭ ‬فيها‭ ‬إن‭ ‬بعض‭ ‬البشر‭ ‬لا‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬أيامهم‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يواصلون‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬الناس‭ ‬وأعمالهم،‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬رحيلهم‭.‬

لقد‭ ‬ودّعت‭ ‬البحرين‭ ‬امرأة‭ ‬خلدت‭ ‬اسمها‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬الألقاب،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬المواقف،‭ ‬وفيما‭ ‬زرعته‭ ‬من‭ ‬خير‭ ‬سيبقى‭ ‬صدقة‭ ‬جارية،‭ ‬وأثرًا‭ ‬لا‭ ‬يزول‭.‬

رحم‭ ‬الله‭ ‬صفية‭ ‬علي‭ ‬محمد‭ ‬كانو،‭ ‬وجزاها‭ ‬عن‭ ‬وطنها‭ ‬وأهلها‭ ‬خير‭ ‬الجزاء،‭ ‬وأجزل‭ ‬لها‭ ‬العطاء‭ ‬كما‭ ‬أجزلته‭ ‬هي‭ ‬لكل‭ ‬محتاج‭ ‬وضعيف‭ ‬ويائس‭.‬

وإن‭ ‬عزاءنا‭ ‬أنها‭ ‬تركت‭ ‬خلفها‭ ‬إرثًا‭ ‬من‭ ‬نور،‭ ‬سيضيء‭ ‬لنا‭ ‬الطريق،‭ ‬حين‭ ‬يعم‭ ‬الظلام‭.‬

الخلاصة‭.. ‬سنرحل‭ ‬جميعًا‭ ‬يومًا‭ ‬ما،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يبقى‭ ‬هو‭ ‬الأثر‭ ‬لا‭ ‬غير‭.‬

 

كاتب‭ ‬وإعلامي‭ ‬بحريني‭ ‬