التعدي على الخصوصية والصراع بين أميركا والاتحاد الأوروبي

| د. عبدالقادر ورسمه

يلعب‭ ‬الإنترنت‭ ‬ووسائل‭ ‬ثورة‭ ‬تقنية‭ ‬المعلومات‭ ‬أدوارا‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مناحي‭ ‬الحياة‭ ‬العصرية،‭ ‬وخاصة‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالمعاملات‭ ‬التجارية‭ ‬والأعمال‭ ‬الدولية،‭ ‬والشخصية‭ ‬أيضا‭. ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬يتم‭ ‬في‭ ‬هدوء‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت‭ ‬ووسائل‭ ‬التقنية‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬متوفرة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬والجميع‭ ‬يتعامل‭ ‬بها‭ ‬بكل‭ ‬سهولة‭ ‬لا‭ ‬تتعدي‭ ‬“كبسة‭ ‬زر”‭ ‬في‭ ‬الجهاز‭. ‬وهكذا،‭ ‬أصبح‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬واحد،‭ ‬وأصبح‭ ‬العالم‭ ‬الكبير‭ ‬قرية‭ ‬صغيرة‭ ‬تصلها‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬خارج‭ ‬الزمن‭ ‬التقليدي‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬لا‭ ‬زمن‭ ‬يقاس‭. ‬

وعبر‭ ‬هذه‭ ‬التقنية،‭ ‬طوعنا‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬ومن‭ ‬الـ‭ ‬“لا”‭ ‬ممكن،‭ ‬وكل‭ ‬يوم،‭ ‬نصل‭ ‬لعوالم‭ ‬أرحب‭ ‬وأعمق‭ ‬بسبب‭ ‬التقنية،‭ ‬ولكن‭ ‬قد‭ ‬تأتي‭ ‬الرياح‭ ‬بعكس‭ ‬ما‭ ‬نرغب،‭ ‬وهناك‭ ‬جوانب‭ ‬سلبية‭ ‬لهذه‭ ‬الطفرة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬نتضرر‭ ‬منها‭. ‬ومن‭ ‬ضمن‭ ‬هذه‭ ‬السلبيات‭ ‬نجد،‭ ‬جرائم‭ ‬انتهاك‭ ‬الخصوصية‭ ‬والتعدي‭ ‬والتطفل‭ ‬والابتزاز‭ ‬والسرقة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬جرائم‭ ‬السايبر‭ ‬التي‭ ‬تتم‭ ‬في‭ ‬خفاء‭ ‬عبر‭ ‬الأثير،‭ ‬والتي‭ ‬يتعرض‭ ‬لها‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يستخدم‭ ‬الإنترنت‭ ‬ووسائل‭ ‬التقنية‭. ‬

هذا‭ ‬الانتهاك‭ ‬والتعدي‭ ‬على‭ ‬الخصوصية‭ ‬والتطفل‭ ‬والابتزاز،‭ ‬قد‭ ‬يتم‭ ‬لأي‭ ‬سبب‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬زمان‭ ‬وأي‭ ‬مكان،‭ ‬وقد‭ ‬يسبب‭ ‬مضايقات‭ ‬شخصية‭ ‬عديدة‭ ‬لا‭ ‬تحصى‭ ‬وقد‭ ‬يسبب‭ ‬خسائر‭ ‬معنوية‭ ‬ومادية‭ ‬كبيرة‭. ‬وهذا،‭ ‬بكل‭ ‬أسف،‭ ‬قد‭ ‬يحدث‭ ‬لأي‭ ‬شخص‭ ‬ولأي‭ ‬شركة‭ ‬كبيرة‭ ‬أو‭ ‬صغيرة،‭ ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يمنعها‭ ‬عنك‭ ‬طالما‭ ‬أنت‭ ‬تستخدم‭ ‬الإنترنت‭ ‬وإخوانه‭ ‬وأخواته،‭ ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬كنتم‭ ‬في‭ ‬بروج‭ ‬مشيدة‭ ‬ومحصنة‭. ‬ويا‭ ‬للحسرة،‭ ‬لأن‭ ‬الحماية‭ ‬الوحيدة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬الابتعاد‭ ‬التام‭ ‬عن‭ ‬التقنية‭ ‬واستخداماتها،‭ ‬فهل‭ ‬نستطيع‭ ‬ذلك؟‭ ‬بالطبع‭ ‬لا‭.‬

ولمقابلة‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬المرير‭ ‬والتعامل‭ ‬معه،‭ ‬ظلت‭ ‬الدول‭ ‬تصدر‭ ‬القوانين‭ ‬وتعدل‭ ‬التشريعات‭ ‬لمحاولة‭ ‬مجاراة‭ ‬الواقع‭. ‬وكذلك‭ ‬ظلت‭ ‬الشبكات‭ ‬والمنظمات‭ ‬الدولية‭ ‬في‭ ‬نشاط‭ ‬وتصدر‭ ‬المواثيق‭ ‬والمعاهدات‭ ‬ذات‭ ‬العلاقة‭. ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬وضع‭ ‬الحدود‭ ‬لحماية‭ ‬الخصوصية،‭ ‬ولردع‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يتجاوز‭ ‬هذه‭ ‬الحدود‭. ‬ولكن‭ ‬الصراع‭ ‬المحتدم‭ ‬لحماية‭ ‬الخصوصية‭ ‬لن‭ ‬ينتهي‭ ‬لصالح‭ ‬طرف‭ ‬دون‭ ‬الآخر،‭ ‬بل‭ ‬سيستمر‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬للأزل‭ ‬وذلك‭ ‬بحكم‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية‭ ‬ودواخل‭ ‬النفس‭ ‬الأمارة‭ ‬بالسوء‭. ‬ما‭ ‬قادنا‭ ‬الآن‭ ‬للتطرق‭ ‬لهذا‭ ‬الموضوع‭ ‬القديم‭ ‬الجديد،‭ ‬الساخن‭ ‬الهامد،‭ ‬ذلك‭ ‬الحكم‭ ‬الذي‭ ‬أصدرته‭ ‬قبل‭ ‬فترة‭ ‬“محكمة‭ ‬العدالة‭ ‬الأوروبية‭ ‬العليا”،‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬قمة‭ ‬السلطة‭ ‬القضائية‭ ‬للاتحاد‭ ‬الأوروبي‭. ‬وهذا‭ ‬الحكم‭ ‬متعلق‭ ‬بالخصوصية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالإنترنت‭ ‬والتقنية‭ ‬الإلكترونية‭ ‬ومعيار‭ ‬هذه‭ ‬الخصوصية‭ ‬ومداها،‭ ‬حيث‭ ‬قضت‭ ‬المحكمة‭ ‬بأن‭ ‬“المعيار‭ ‬الأميركي”‭ ‬لحماية‭ ‬الخصوصية‭ ‬لا‭ ‬يرقي‭ ‬لمستوى‭ ‬“المعيار‭ ‬الأوروبي”‭ ‬الذي‭ ‬تنتهجه‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬عبر‭ ‬القوانين‭ ‬الصادرة‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭. ‬

في‭ ‬الواقع،‭ ‬تقدم‭ ‬مواطن‭ ‬أوروبي‭ ‬بطلب‭ ‬للجهات‭ ‬المختصة‭ ‬ثم‭ ‬رفع‭ ‬دعوى‭ ‬أمام‭ ‬المحكمة‭ ‬في‭ ‬إيرلندا‭ ‬يطلب‭ ‬عدم‭ ‬السماح‭ ‬بنقل‭ ‬البيانات‭ ‬والمعلومات‭ ‬الخاصة‭ ‬به‭ ‬عبر‭ ‬الـ‭ ‬“فيسبوك‭ ‬إيرلندا”‭ ‬الي‭ ‬أميركا‭ ‬استنادا‭ ‬لمبدأ‭ ‬“المرفأ‭ ‬الآمن”‭ ‬المبرم‭ ‬بين‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭. ‬وقال‭ ‬المدعي‭ ‬إن‭ ‬الوضع‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬غير‭ ‬سليم‭ ‬ويعرض‭ ‬خصوصيته‭ ‬للمخاطر،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬الكشف‭ ‬عنه‭ ‬بواسطة‭ ‬الـ‭ ‬“ويكيليكس”‭ ‬وفضائح‭ ‬“سنودن”‭ ‬يوضح‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬الحماية‭ ‬الكافية‭ ‬للبيانات‭ ‬والمعلومات‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬وأنها‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬عرضة‭ ‬للانتهاك‭ ‬والانكشاف‭ ‬وما‭ ‬يتبع‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أضرار‭. ‬

المدعي‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬البيانات‭ ‬والمعلومات‭ ‬المنقولة‭ ‬لا‭ ‬تتمتع‭ ‬بالحماية‭ ‬الكافية‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬“لدرجة‭ ‬الاطمئنان‭ ‬للتعامل‭ ‬معها”‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬“سرية‭ ‬تامة”‭ ‬و”بمعايير‭ ‬أمنية‭ ‬كافية‭ ‬ورادعة‭ ‬للمتطفلين”‭ ‬ومنتهكي‭ ‬الخصوصية،‭ ‬وهم‭ ‬كثر‭ ‬لا‭ ‬عدد‭ ‬لهم،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬هذا‭ ‬الوضع،‭ ‬وبالطبع‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬المدعي‭ ‬وكل‭ ‬أوروبي‭. ‬ووصلت‭ ‬القضية‭ ‬إلى‭ ‬المحكمة‭ ‬العليا‭ ‬بإيرلندا،‭ ‬والتي‭ ‬بدورها‭ ‬أحالتها‭ ‬لمحكمة‭ ‬العدالة‭ ‬الأوربية‭ ‬العليا‭ ‬بصفتها‭ ‬صاحبة‭ ‬الاختصاص‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬قوانين‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي،‭ ‬ولإصدار‭ ‬القرار‭ ‬الملزم‭ ‬للاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬بخصوص‭ ‬معيار‭ ‬“المرفأ‭ ‬الآمن”‭ ‬المبرم‭ ‬مع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭. ‬وبعد‭ ‬سير‭ ‬الإجراءات،‭ ‬أصدرت‭ ‬محكمة‭ ‬العدالة‭ ‬الأوروبية‭ ‬العليا‭ ‬قرارها‭ ‬ضد‭ ‬معيار‭ ‬“المرفأ‭ ‬الآمن”‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬الاتفاق‭ ‬عليه،‭ ‬وحكمت‭ ‬بعدم‭ ‬صلاحيته‭ ‬وكفايته‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يوفر‭ ‬الحماية‭ ‬الكافية‭ ‬للخصوصية‭ ‬التي‭ ‬ينشدها‭ ‬“الطرف‭ ‬المقيم”‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭. ‬وهذا‭ ‬القرار‭ ‬القوي‭ ‬ملزم‭ ‬للاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬وهكذا‭ ‬يسود‭ ‬حكم‭ ‬القانون‭ ‬على‭ ‬الجميع،‭ ‬وهكذا‭ ‬بسبب‭ ‬فرد‭ ‬واحد‭ ‬تقول‭ ‬المحكمة‭ ‬إن‭ ‬الاتفاق‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الشعوب‭ ‬غير‭ ‬صالح‭ ‬وغير‭ ‬كاف،‭ ‬وأنه‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬“اتفاق‭ ‬قاري”‭ ‬بين‭ ‬عدة‭ ‬دول‭ ‬في‭ ‬قارات‭ ‬مختلفة‭. ‬واستنادا‭ ‬لهذا‭ ‬القرار‭ ‬وانصياعا‭ ‬له‭ ‬قام‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬بمراجعة‭ ‬موقفه‭ ‬من‭ ‬مبدأ‭ ‬“المرفأ‭ ‬الآمن”‭ ‬وتم‭ ‬تقديم‭ ‬مقترحات‭ ‬جديدة‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وتجري‭ ‬المفاوضات‭ ‬لوضع‭ ‬البدائل‭ ‬التي‭ ‬تضمن‭ ‬حسن‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬ولوضع‭ ‬أسس‭ ‬سليمة‭ ‬لتحقيق‭ ‬صيانة‭ ‬تامة‭ ‬للخصوصية‭. ‬