صداقة الدواء

| نوح الجيده

قبل أكثر من عشر سنوات، كانت أمي تحمل علبةً زرقاء، مقسّمةً إلى مربعاتٍ صغيرة بعدد أيام الشهر الواحد، كانت بهذه العلبة -التي تسمع خشخشة ما فيها- تطير أمي إلى جدتي بعدما أنهكها تعب السنين وهدّتها أمراض تقدّم العمر.

ومع كلّ وجبةٍ كانت أمي تفتح مربّعًا، وتمدّ حبّةَ دواءٍ تخفّف عن جدّتي وطأة الألم، كانت هذه الحبوب هي الصديق الذي لم تختره رحمها الله تعالى، تقْبَلُها بخيرها وشرّها، لأنّها ترعاها بشكلٍ دوري لتعيش حياةً طيّبةً تجعلها أقرب للعافية من مشقّة المرض.

أعرف طفلًا لم يبلغ العاشرة يقضي حياته كلّها وإبرة الأنسولين لا تفارق جيبه، ألا تشعر معي أن هذه الإبرة تمثّل في قربها من المريض ودورها في تنظيم مستويات السكّر في الدم شيئًا من معاني الصداقة؟ مع هذا فإنّ هناك من تربطهم بالدواء علاقة عداءً لا صداقة، قد تهوي بهم -في ظروفٍ معيّنةٍ- إلى ما لا يُحمد عقباه.

وعلاقة الإنسان بالدواء مرتبطةٌ بشكل المرض الذي يصيبه، فالذي يتعرّض لنزلة بردٍ أو فيروس في الهواء مثلًا، تنتهي صداقته بالدواء مع زوال العَرَض. شخصيًا لا أذكر متّى آخر مرّةٍ أنهيت فيها جميع جرعات المضاد الحيوي، فمع اللحظة التي أشعر أني شُفيت نوعًا ما، أرميها بعيدًا على عكس نصيحة الطبيب تمامًا.

يعي كلامي هذا جيّدًا من عاش معنا السنتين الماضيين، وجرّب الحجر الصحي أو المنزلي بين أربعة جدران، لا يصاحبه فيها إلا الدواء وبعض الملهيات، ذلك أنّ آلام المرء أحوج ما تكون إلى صديقٍ صدوقٍ يخفّف عنها السقم، ويتدّخل متى ما تطلّب الأمر، حتّى ولو كان هذا الصديق مجرّد حبّة "بانادول".