الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان وأجراس الوفاء والعرفان

| عبدالنبي الشعلة

منذ‭ ‬العام‭ ‬1999‭ ‬وكلما‭ ‬يقترب‭ ‬يوم‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬مارس‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬تقرع‭ ‬في‭ ‬عميق‭ ‬جوارحي‭ ‬وجوارح‭ ‬كل‭ ‬بحريني‭ ‬أجراس‭ ‬الوفاء‭ ‬والعرفان‭ ‬لأمير‭ ‬الحكمة‭ ‬والكرم‭ ‬والبساطة‭ ‬والتواضع؛‭ ‬الأمير‭ ‬الراحل‭ ‬المغفور‭ ‬له‭ ‬صاحب‭ ‬السمو‭ ‬الشيخ‭ ‬عيسى‭ ‬بن‭ ‬سلمان‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراه،‭ ‬وفي‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬نجدد‭ ‬العهد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬نبقى‭ ‬متمسكين‭ ‬ولن‭ ‬نتخلى‭ ‬عن‭ ‬المفاخرة‭ ‬بما‭ ‬نكنُّ‭ ‬لذلك‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬الحب‭ ‬والولاء‭ ‬والاحترام‭ ‬والتقدير،‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬عامًا‭ ‬على‭ ‬وفاته،‭ ‬وسنظل‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬رمق‭ ‬في‭ ‬حياتنا؛‭ ‬لأننا‭ ‬هكذا‭ ‬تعلمنا‭ ‬معنى‭ ‬الإخلاص‭ ‬وهكذا‭ ‬تعلمنا‭ ‬معنى‭ ‬الوفاء‭.‬

وتتجدد‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬الذكرى‭ ‬والذكريات‭ ‬مع‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬اقتحم‭ ‬بالبحرين‭ ‬وشعبها‭ ‬آفاق‭ ‬التطور‭ ‬والتحديث‭ ‬والنماء،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حقق‭ ‬لنا‭ ‬الاستقلال‭ ‬ووقف‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الطامعين،‭ ‬وحافظ‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬العربية‭ ‬لوطننا‭ ‬الغالي،‭ ‬وحمى‭ ‬كل‭ ‬ذرّة‭ ‬من‭ ‬ترابه‭ ‬الطاهر،‭ ‬ووضع‭ ‬البحرين‭ ‬في‭ ‬مصافّ‭ ‬الدول‭ ‬المحبة‭ ‬للسلام‭ ‬والاستقرار،‭ ‬وجعلها‭ ‬عضوًا‭ ‬عاملًا‭ ‬في‭ ‬المنظمات‭ ‬والمحافل‭ ‬الدولية‭ ‬والعربية‭.‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬تولى‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬زمام‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1961‭ ‬واصل‭ ‬تقاليد‭ ‬وتراث‭ ‬آبائه‭ ‬وأجداده‭ ‬في‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬الاتصال‭ ‬والتواصل‭ ‬بالناس‭ ‬والالتقاء‭ ‬بهم‭ ‬والاستماع‭ ‬لهم‭ ‬والتشاور‭ ‬معهم‭ ‬وزيارتهم‭ ‬في‭ ‬أفراحهم‭ ‬وأتراحهم،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬زاد‭ ‬وتفوق‭ ‬وتميز‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحرص،‭ ‬فكان‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬يعقد‭ ‬مجلسًا‭ ‬عامًّا‭ ‬يوميًّا‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬عهده،‭ ‬ثم‭ ‬أصبح‭ ‬مجلسًا‭ ‬واحدًا‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭.‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬المجالس‭ ‬منابر‭ ‬تجلّت‭ ‬فوقها‭ ‬المواقف‭ ‬النبيلة‭ ‬والخصائص‭ ‬الإنسانية‭ ‬والخصال‭ ‬الحميدة‭ ‬للشيخ‭ ‬عيسى‭ ‬رحمه‭ ‬لله؛‭ ‬برزت‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬ذاكرته‭ ‬القوية‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬يتذكر‭ ‬أسماء‭ ‬وأنساب‭ ‬زوّاره‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬وغيرهم،‭ ‬فالمعروف‭ ‬أن‭ ‬أنجال‭ ‬المرحوم‭ ‬الشيخ‭ ‬سلمان‭ ‬بن‭ ‬حمد‭ ‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراه‭ ‬ورثوا‭ ‬عنه‭ ‬قوة‭ ‬الذاكرة،‭ ‬وقد‭ ‬عايشتُ‭ ‬ذلك‭ ‬وشاهدتُه‭ ‬أيضًا‭ ‬وبأمِّ‭ ‬عيني‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬عندما‭ ‬أصبحتُ‭ ‬لسنوات‭ ‬طويلة‭ ‬بمعيّة‭ ‬شقيقه‭ ‬المغفور‭ ‬له‭ ‬الشيخ‭ ‬خليفة‭ ‬بن‭ ‬سلمان‭ ‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬أيضًا‭ ‬يتمتع‭ ‬بذاكرة‭ ‬قوية‭ ‬خارقة‭ ‬حاضرة‭ ‬طول‭ ‬الأوقات،‭ ‬وحتى‭ ‬آخر‭ ‬أيام‭ ‬حياته‭.‬

وتنقسم‭ ‬مجالس‭ ‬الشيخ‭ ‬عيسى‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬إلى‭ ‬مجالس‭ ‬عامّة‭ ‬وأخرى‭ ‬خاصّة‭ ‬أو‭ ‬مختصرة،‭ ‬وقد‭ ‬كنتُ‭ ‬مواظبًا‭ ‬على‭ ‬حضور‭ ‬المجالس‭ ‬العامّة‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬سنّ‭ ‬مبكرة‭ ‬من‭ ‬عمري،‭ ‬ثم‭ ‬تكثّفت‭ ‬مواظبتي‭ ‬وصار‭ ‬حضوري‭ ‬يشمل‭ ‬أيضًا‭ ‬المجالس‭ ‬الخاصة‭ ‬أو‭ ‬المختصرة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبحتُ‭ ‬عضوًا‭ ‬بمجلس‭ ‬إدارة‭ ‬غرفة‭ ‬تجارة‭ ‬وصناعة‭ ‬البحرين‭ ‬ثم‭ ‬مجلس‭ ‬الشورى،‭ ‬ثم‭ ‬خلال‭ ‬تقلُّدي‭ ‬المسؤولية‭ ‬الوزارية،‭ ‬وتكررت‭ ‬أمام‭ ‬عيني‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الأيام‭ ‬والسنين‭ ‬مواقف‭ ‬ومشاهد‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬عالقة‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬ووجداني،‭ ‬تعكس‭ ‬طيبة‭ ‬ذلك‭ ‬الإنسان‭ ‬وحكمته‭ ‬وتواضعه‭ ‬وكرمه‭ ‬وأريحيته‭ ‬ودماثة‭ ‬خلقه‭ ‬وأصالة‭ ‬معدنه،‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬وأسكنه‭ ‬فسيح‭ ‬جناته‭.‬‭ ‬

كان‭ ‬الشيخ‭ ‬عيسى‭ ‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراه‭ ‬يحب‭ ‬الناس‭ ‬ويحبه‭ ‬الناس،‭ ‬ويحب‭ ‬أن‭ ‬يلقاهم،‭ ‬كان‭ ‬مجلسه‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬يعقده‭ ‬في‭ ‬القاعة‭ ‬الكبرى‭ ‬بقصر‭ ‬الرفاع‭ ‬مفتوحًا‭ ‬للجميع‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬لاستقبال‭ ‬ضيوف‭ ‬البلاد‭ ‬وزوّارها،‭ ‬ورجالها‭ ‬ووجهائها،‭ ‬وأغنيائها‭ ‬وفقرائها،‭ ‬وأي‭ ‬مواطن‭ ‬أو‭ ‬مقيم‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬زيارته‭ ‬أو‭ ‬لديه‭ ‬حاجة‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬قضائها،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أخذ‭ ‬موعد‭ ‬أو‭ ‬إجراء‭ ‬أي‭ ‬ترتيبات‭ ‬مسبقة،‭ ‬وكان‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬تحية‭ ‬ومصافحة‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬زائريه‭ ‬فردًا‭ ‬فردًا‭ ‬عند‭ ‬وصوله،‭ ‬ويودّعهم‭ ‬عند‭ ‬مغادرتهم‭ ‬فردًا‭ ‬فردًا،‭ ‬مهما‭ ‬صغر‭ ‬ذلك‭ ‬الفرد‭ ‬أو‭ ‬كبر‭.‬

وما‭ ‬تزال‭ ‬الذاكرة‭ ‬الوطنية‭ ‬وأرشيف‭ ‬الدولة‭ ‬زاخرَين‭ ‬بآلاف‭ ‬الأشرطة‭ ‬للطوابير‭ ‬الطويلة‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬بمختلف‭ ‬أطيافهم،‭ ‬ومن‭ ‬المقيمين‭ ‬بمختلف‭ ‬جنسياتهم‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يتقاطرون‭ ‬بكثافة‭ ‬على‭ ‬قصر‭ ‬الرفاع‭ ‬لتقديم‭ ‬التهاني‭ ‬للأمير‭ ‬المحبوب‭ ‬في‭ ‬الأعياد‭ ‬والمناسبات،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬الاحتفال‭ ‬بالعيد‭ ‬الوطني‭ ‬وذكرى‭ ‬جلوس‭ ‬سموه‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬الحكم‭.‬

في‭ ‬مجلسه‭ ‬الخاص‭ ‬الملحق‭ ‬بمنزله‭ ‬بالرفاع‭ ‬أيضًا،‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬يوم‭ ‬عمل،‭ ‬كان‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬دائم‭ ‬لاستقبال‭ ‬ولقاء‭ ‬الوزراء‭ ‬والسفراء،‭ ‬ووفود‭ ‬التجار‭ ‬ورجال‭ ‬الأعمال،‭ ‬وكبار‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬المحافل‭ ‬والمؤتمرات‭ ‬التي‭ ‬تعقد‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬ومجالس‭ ‬إدارات‭ ‬الشركات‭ ‬والأندية‭ ‬والجمعيات‭ ‬ومؤسسات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬الأخرى‭ ‬وما‭ ‬شابه‭. ‬وعلى‭ ‬خلاف‭ ‬المجلس‭ ‬العام،‭ ‬فإن‭ ‬لقاء‭ ‬سموه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجلس‭ ‬يتم‭ ‬بترتيب‭ ‬مسبق‭ ‬مع‭ ‬سكرتارية‭ ‬سموه‭.‬

كان‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬جسّ‭ ‬نبض‭ ‬الشارع‭ ‬وتحقيق‭ ‬الاتصال‭ ‬والتواصل‭ ‬بكل‭ ‬أطياف‭ ‬وشرائح‭ ‬المجتمع،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬التطورات‭ ‬التي‭ ‬يشهدها‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬لقائه‭ ‬بالزوار‭ ‬الأجانب‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬المسؤولين‭ ‬أو‭ ‬الفعاليات‭ ‬الأخرى،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬يبدأ‭ ‬يومه‭ ‬ونشاطه‭ ‬بعد‭ ‬صلاة‭ ‬الصبح،‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬لاستقبال‭ ‬ضيوفه‭ ‬في‭ ‬مجلسه‭ ‬الخاص‭ ‬ابتداءً‭ ‬من‭ ‬الساعة‭ ‬السابعة‭ ‬صباحًا؛‭ ‬وهو‭ ‬موعد‭ ‬بدء‭ ‬الدوام‭ ‬الرسمي‭ ‬لكل‭ ‬موظفي‭ ‬الدولة،‭ ‬وكان‭ ‬زوّار‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬القادة‭ ‬والمسؤولين‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬يتعجبون‭ ‬ويندهشون‭ ‬عندما‭ ‬يرون‭ ‬رئيس‭ ‬الدولة‭ ‬يستقبل‭ ‬زوّار‭ ‬البلاد‭ ‬وضيوفها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الساعة‭ ‬المبكرة‭ ‬من‭ ‬الصباح،‭ ‬وكانت‭ ‬دهشتهم‭ ‬تزداد‭ ‬وتتسع‭ ‬عندما‭ ‬يصلون‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬الاجتماع،‭ ‬وإذا‭ ‬بالأمير‭ ‬واقفًا‭ ‬ينتظرهم‭ ‬عند‭ ‬الباب‭ ‬خارج‭ ‬قاعة‭ ‬الاجتماع،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬يأمر‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬بأن‭ ‬يخبروه‭ ‬قبل‭ ‬وصول‭ ‬ضيوفه‭ ‬حتى‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬الاجتماع‭ ‬ويكون‭ ‬في‭ ‬استقبالهم‭ ‬عند‭ ‬وصولهم،‭ ‬وتتعاظم‭ ‬دهشتهم‭ ‬أكثر‭ ‬عند‭ ‬مغادرتهم‭ ‬الاجتماع‭ ‬حيث‭ ‬يصرّ‭ ‬الأمير‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يودعهم‭ ‬ويصحبهم‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬المجلس،‭ ‬إنها‭ ‬قمة‭ ‬التواضع‭ ‬وقمة‭ ‬الثقة‭ ‬بالنفس،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬يضرب‭ ‬بإجراءات‭ ‬الأمن‭ ‬والسلامة‭ ‬ومتطلبات‭ ‬المراسم‭ ‬والبروتوكولات‭ ‬عرض‭ ‬الحائط،‭ ‬مفضّلًا‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬والنفاذ‭ ‬إلى‭ ‬قلوبهم‭. ‬

رحمه‭ ‬الله‭ ‬وأسكنه‭ ‬فسيح‭ ‬جناته‭.‬