سوالف

على الأدباء الاستقالة من كل زمن

| أسامة الماجد

كم‭ ‬من‭ ‬أديب‭ ‬أعطى‭ ‬من‭ ‬أغوار‭ ‬وجدانه،‭ ‬ومزق‭ ‬قلبه‭ ‬وشظايا‭ ‬كبده،‭ ‬وكان‭ ‬يغترف‭ ‬أدبه‭ ‬من‭ ‬ينبوع‭ ‬الحياة،‭ ‬فلا‭ ‬يتحذلق‭ ‬ولا‭ ‬يتكلف‭ ‬ولا‭ ‬يتصنع،‭ ‬وخلف‭ ‬كتبا‭ ‬كثيرة‭ ‬تختلف‭ ‬في‭ ‬ألوانها‭ ‬وتتفاوت‭ ‬في‭ ‬طيب‭ ‬نكهتها،‭ ‬لم‭ ‬يحصل‭ ‬من‭ ‬مجتمعه‭ ‬على‭ ‬التقدير‭ ‬وبقي‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬مفتوح‭ ‬من‭ ‬اللامبالاة،‭ ‬مستسلما‭ ‬لطاحونة‭ ‬“التطنيش”،‭ ‬بينما‭ ‬غيره‭ ‬في‭ ‬الميادين‭ ‬المختلفة‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬المزايا‭ ‬والتشجيع‭ ‬ومن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تتجه‭ ‬الأنظار‭ ‬إليه‭ ‬كونه‭ ‬أصبح‭ ‬مثل‭ ‬القنديل‭ ‬الذي‭ ‬ينير‭ ‬الطريق‭ ‬–‭ ‬كما‭ ‬–‭ ‬يتصورونه‭.‬

أدباء‭ ‬تميزوا‭ ‬بالأفكار‭ ‬المجلجلة‭ ‬المدوية‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬المجتمعات‭ ‬كافة،‭ ‬واتصفوا‭ ‬بالقلوب‭ ‬والعقول‭ ‬الكبيرة‭ ‬والقناعة،‭ ‬ولا‭ ‬يطيقون‭ ‬الألقاب‭ ‬الطنانة،‭ ‬ولهذا‭ ‬السبب‭ ‬نجدهم‭ ‬محجوبين‭ ‬عن‭ ‬الشهرة‭ ‬والوجاهة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬ومعزولين‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬غريبة‭ ‬تحد‭ ‬من‭ ‬الطاقات‭ ‬المبدعة‭ ‬وتحترق‭ ‬فيها‭ ‬الكلمات،‭ ‬وكأن‭ ‬هناك‭ ‬هجوما‭ ‬على‭ ‬الأدباء‭ ‬وطموحاتهم‭ ‬النبيلة،‭ ‬حساسية‭ ‬جديدة‭ ‬تحتجب‭ ‬وراءها‭ ‬إبداعات‭ ‬الأدباء‭ ‬وقوة‭ ‬أفكارهم‭ ‬وكلماتهم،‭ ‬بينما‭ ‬الآخرون‭ ‬في‭ ‬الميادين‭ ‬المختلفة‭ ‬يتم‭ ‬تقديسهم‭ ‬بمرتبة‭ ‬الشرف،‭ ‬كمشاهير‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الذين‭ ‬فرضوا‭ ‬بسخافاتهم‭ ‬وتهريجهم‭ ‬نمطا‭ ‬غريبا‭ ‬من‭ ‬الإسفاف،‭ ‬جاعلين‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬الذي‭ ‬يقدمونه‭ ‬ملاذا‭ ‬للروح‭ ‬الغبية‭ ‬التي‭ ‬تصدقهم‭ ‬وترقص‭ ‬على‭ ‬أنغامهم‭.‬

في‭ ‬عصرنا‭ ‬المليء‭ ‬بالتناقضات‭ ‬العميقة‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬مكان‭ ‬للأديب‭ ‬والكاتب‭ ‬الملتزم،‭ ‬فصورة‭ ‬الإهمال‭ ‬أخذت‭ ‬تتغلغل‭ ‬بصورة‭ ‬مخيفة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الأدباء،‭ ‬فلا‭ ‬فضائيات‭ ‬تهتم‭ ‬بهم،‭ ‬ولا‭ ‬صحف،‭ ‬ولا‭ ‬مجلات،‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬تقاليد‭ ‬صارمة‭ ‬عند‭ ‬التعامل‭ ‬معهم‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالنشر‭ ‬والكتابة،‭ ‬وهذا‭ ‬المناخ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مقبولا‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬السابق‭ ‬تعتبر‭ ‬الأديب‭ ‬عمود‭ ‬المجتمع‭ ‬وأداة‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬الإصلاح‭ ‬والتنوير،‭ ‬حيث‭ ‬صار‭ ‬من‭ ‬الملحوظ‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة‭ ‬غربة‭ ‬الأديب‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬وبقاء‭ ‬أعماله‭ ‬وإبداعاته‭ ‬في‭ ‬كتمان‭ ‬الأدراج‭ ‬المغلقة،‭ ‬وكأن‭ ‬هناك‭ ‬صوتا‭ ‬قادما‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬يقول‭.. ‬على‭ ‬الأدباء‭ ‬الاستقالة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬زمن‭.‬

للأسف‭ ‬هناك‭ ‬نغمة‭ ‬جديدة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬عرفها‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬نغمة‭ ‬حزن‭ ‬الأديب‭ ‬وابتعاده‭ ‬عن‭ ‬عيون‭ ‬الناس‭.‬