نجيب محفوظ وطه حسين

| رضي السماك

في‭ ‬وحشة‭ ‬الفراغ‭ ‬القاتل‭ ‬بين‭ ‬أواخر‭ ‬الثمانينيات‭ ‬وأوائل‭ ‬التسعينيات،‭ ‬تسنت‭ ‬لي‭ ‬قراءة‭ ‬معظم‭ ‬روايات‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬وجذبتني‭ ‬عذوبة‭ ‬لغته‭ ‬الفصحى‭ ‬المبسطة‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬اللهجة‭ ‬المصرية‭ ‬الجميلة،‭ ‬عندها‭ ‬دونت‭ ‬بقلم‭ ‬الرصاص‭ ‬“‭.. ‬عامية‭ ‬مكتوبة‭ ‬بفصحى‭ ‬سليمة”،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أدري‭ ‬حينها‭ ‬أنني‭ ‬سأقرأ‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬شهادة‭ ‬مهمة‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬لعميد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬جاء‭ ‬فيها‭ ‬“إن‭ ‬جانباً‭ ‬من‭ ‬روعة‭ ‬بين‭ ‬القصرين‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬لغتها‭ ‬أيضاً،‭ ‬فهي‭ ‬لم‭ ‬تكتب‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العامية،‭ ‬ولم‭ ‬تُكتب‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬الفصحى‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬يشق‭ ‬فهمها‭ ‬على‭ ‬الناس،‭ ‬إنما‭ ‬كُتبت‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬وسطى‭ ‬يفهمها‭ ‬كل‭ ‬قارئ‭ ‬مهما‭ ‬يكن‭ ‬حظه‭ ‬من‭ ‬الثقافة،‭ ‬ويفهمها‭ ‬الأميون‭ ‬إن‭ ‬قرئت‭ ‬عليهم،‭ ‬وهي‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬لغة‭ ‬فصيحة‭ ‬لا‭ ‬عوج‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬فساد،‭ ‬وقد‭ ‬تجري‭ ‬فيها‭ ‬الجملة‭ ‬العامية‭ ‬أحيانا‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬منها‭ ‬بد،‭ ‬فيكون‭ ‬موقعها‭ ‬حسنا‭ ‬وتبلغ‭ ‬منك‭ ‬موضع‭ ‬الرضا‭ ‬الكامل”‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬كليهما‭ - ‬محفوظ‭ ‬وحسين‭ - ‬كانا‭ ‬من‭ ‬أشد‭ ‬أنصار‭ ‬الفصحى‭ ‬ونبذ‭ ‬الإكثار‭ ‬من‭ ‬العامية‭ ‬في‭ ‬الأعمال‭ ‬النثرية‭ ‬كالقصص‭ ‬والروايات،‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬محدود‭ ‬تقتضيه‭ ‬الضرورات‭ ‬الفنية‭ ‬الإبداعية‭. ‬

وكان‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬ممن‭ ‬تأثر‭ ‬بهم‭ ‬محفوظ‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬اغترافه‭ ‬من‭ ‬مناهل‭ ‬الثقافة‭ ‬بروافدها‭ ‬المحلية‭ ‬والعربية‭ ‬والعالمية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬المازني‭ ‬والمنفلوطي‭ ‬والعقاد‭ ‬وهيكل‭ ‬والحكيم‭. ‬ولئن‭ ‬أضحى‭ ‬كلاهما‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الأعلام‭ ‬المستنيرة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬والأدب‭ ‬بمصر‭ ‬والعالم‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬تاريخنا‭ ‬الحديث،‭ ‬فقد‭ ‬شاءت‭ ‬الظروف‭ ‬أن‭ ‬يُكفّرا‭ ‬معاً،‭ ‬الأول‭ ‬إثر‭ ‬نشر‭ ‬كتابه‭ ‬“في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي”‭ ‬في‭ ‬العشرينيات،‭ ‬والثاني‭ ‬إثر‭ ‬نشر‭ ‬حلقات‭ ‬من‭ ‬روايته‭ ‬“أولاد‭ ‬حارتنا”‭ ‬أواخر‭ ‬الخمسينيات‭ ‬في‭ ‬الأهرام‭. ‬ومن‭ ‬المفارقات‭ ‬الغريبة‭ ‬التي‭ ‬تدحض‭ ‬تكفيرهما،‭ ‬أن‭ ‬“محفوظ”‭ ‬الذي‭ ‬تربى‭ ‬وترعرع‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬حارات‭ ‬الحسين‭ ‬الشعبية‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬صديق‭ ‬له‭ ‬أثناء‭ ‬مرضه‭ ‬الأخير‭ ‬الدعاء‭ ‬له‭ ‬عند‭ ‬الحُسين،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬العبارات‭ ‬التي‭ ‬خطها‭ ‬لتمرين‭ ‬يده‭ ‬اليمنى‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬بعد‭ ‬محاولة‭ ‬اغتياله‭ ‬“بسم‭ ‬الله‭ ‬الرحمن‭ ‬الرحيم،‭ ‬أعوذ‭ ‬بالله‭ ‬من‭ ‬الشيطان‭ ‬الرجيم”‭. ‬أما‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬فعندما‭ ‬سئل‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬عمره‭ ‬عن‭ ‬أقرب‭ ‬أعماله‭ ‬لقلبه‭ ‬أجاب‭: ‬“على‭ ‬هامش‭ ‬السيرة”‭ ‬و”الوعد‭ ‬الحق”‭.‬