نجيب محفوظ رقيبا سينمائيا

| رضي السماك

من‭ ‬يصدق‭ ‬أن‭ ‬الروائي‭ ‬الكبير‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬الذي‭ ‬تعرضت‭ ‬رائعته‭ ‬“أولاد‭ ‬حارتنا”‭ ‬لمقص‭ ‬الرقابة‭ ‬جراء‭ ‬قراءة‭ ‬مبتسرة‭ ‬متسرعة‭ ‬متأثرة‭ ‬بما‭ ‬أشيع‭ ‬عنها،‭ ‬ومن‭ ‬ضمنهم‭ ‬للأسف‭ ‬أدباء‭ ‬وكتّاب‭ ‬من‭ ‬زملائه‭ ‬ومعارفه‭ ‬بدافع‭ ‬الغيرة‭ ‬منه،‭ ‬والذي‭ ‬انتصر‭ ‬بعدئذ‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأزمة‭ ‬المختلقة‭ ‬بإجازة‭ ‬الدولة‭ ‬روايته‭ ‬كمسلسل‭ ‬إذاعي‭ ‬في‭ ‬1968،‭ ‬رغم‭ ‬عدم‭ ‬السماح‭ ‬بطبعها‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬ثم‭ ‬انتصر‭ ‬بعد‭ ‬مماته‭ ‬في‭ ‬2006‭ ‬بإجازة‭ ‬طبعها‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الشروق‭ ‬بمقدمة‭ ‬للوزير‭ ‬والمفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬الراحل‭ ‬كمال‭ ‬أبوالمجد،‭ ‬نقول‭ ‬من‭ ‬يصدق‭ ‬أن‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬هذا‭ ‬عمل‭ ‬رقيبا‭ ‬سينمائيا‭ ‬كما‭ ‬عمل‭ ‬“سيناريست”،‭ ‬ونجح‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خلّاق‭ ‬في‭ ‬إقرار‭ ‬أعمال‭ ‬سينمائية‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تثير‭ ‬حفيظة‭ ‬المجتمع‭ ‬أو‭ ‬الجهات‭ ‬الدينية‭ ‬والرسمية‭ ‬التي‭ ‬لها‭ ‬سلطة‭ ‬رقابية؟‭ ‬اكتشف‭ ‬محفوظ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عمله‭ ‬كسيناريست‭ ‬ورقيب‭ ‬سينمائي‭ ‬أن‭ ‬الحظر‭ ‬قبل‭ ‬توليه‭ ‬هاتين‭ ‬الوظيفتين‭ ‬في‭ ‬الخمسينيات‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬كيدياً‭ ‬غير‭ ‬منزه‭ ‬الهوى،‭ ‬بغرض‭ ‬ابتزاز‭ ‬المخرج‭ ‬أو‭ ‬شركات‭ ‬الإنتاج‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬مبلغ‭ ‬لتمرير‭ ‬مشروع‭ ‬فيلم‭ ‬ما،‭ ‬لكنه‭ ‬استطاع‭ ‬بعبقريته‭ ‬الفذة‭ ‬وطيبة‭ ‬قلبه‭ ‬خلال‭ ‬عمله‭ ‬منع‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة،‭ ‬وقال‭ ‬قولته‭ ‬الشهيرة‭ ‬عن‭ ‬الرقابة‭ ‬الإعلامية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬السينما‭: ‬“الرقيب‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬صديقا‭ ‬للكاتب‭ ‬لا‭ ‬عدواً‭ ‬له،‭ ‬وأية‭ ‬ملاحظات‭ ‬في‭ ‬السيناريوهات‭ ‬يمكن‭ ‬حلها‭ ‬بالمناقشة‭ ‬والحوار،‭ ‬مع‭ ‬الأخذ‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬أن‭ ‬الأصل‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬هو‭ ‬الإباحة،‭ ‬أما‭ ‬المنع‭ ‬فهو‭ ‬مثل‭ ‬الطلاق،‭ ‬أي‭ ‬أبغض‭ ‬الحلال”‭.‬

ولعمري‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬القاعدة‭ ‬العقلانية‭ ‬الرائعة‭ ‬لو‭ ‬انتهجها‭ ‬جميع‭ ‬المعنيين‭ ‬بالرقابة‭ ‬الإعلامية‭ ‬بلا‭ ‬استثناء‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬لكان‭ ‬هامش‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬فيه‭ ‬أوسع‭ ‬بكثير‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬عليه‭. ‬لم‭ ‬يستغل‭ ‬محفوظ‭ ‬سلطته‭ ‬الرقابية‭ ‬قط‭ ‬لدوافع‭ ‬كيدية‭ ‬بغرض‭ ‬التربح‭ ‬غير‭ ‬المشروع،‭ ‬أو‭ ‬تحت‭ ‬دافع‭ ‬الغيرة‭ ‬من‭ ‬زميل‭ ‬سيناريست‭ ‬أو‭ ‬كاتب‭ ‬رواية‭ ‬يعتبرهما‭ ‬منافسين‭ ‬له،‭ ‬أو‭ ‬لتمرير‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬سيناريوهات‭ ‬رغم‭ ‬اختصاصه‭ ‬بذلك،‭ ‬إذ‭ ‬ترك‭ ‬القرار‭ ‬النهائي‭ ‬بشأن‭ ‬أعماله‭ ‬لمدير‭ ‬الرقابة‭ ‬على‭ ‬الأفلام،‭ ‬هذا‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬دخله‭ ‬نزل‭ ‬كثيراً‭ ‬حينما‭ ‬عُيّن‭ ‬رقيباً‭ ‬سينمائياً‭ ‬مقارنة‭ ‬بدخله‭ ‬الأعلى‭ ‬كسينارست‭ ‬متفرغ‭.‬