عمود أكاديمي

أميركا في أفغانستان: انسحاب أم هزيمة؟

| د. باقر النجار

بانسحاب‭ ‬آخر‭ ‬جندي‭ ‬أمريكي‭ ‬من‭ ‬أفغانستان،‭ ‬تسدل‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬حربها‭ ‬على‭ ‬الإرهاب‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تنته‭. ‬وعندما‭ ‬بدأت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الامريكية‭ ‬حربها‭ ‬على‭ ‬طالبان‭ ‬والقاعدة‭ ‬والجماعات‭ ‬الجهادية‭ ‬فيها‭ ‬آنذاك‭ ‬قال‭ ‬الريس‭ ‬الأمريكي‭ ‬الاسبق‭ ‬جورج‭ ‬بوش‭ ‬الابن‭ ‬“هذه‭ ‬المعركة‭ ‬ستأخذ‭ ‬منا‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭ ‬وتنتهي‭.. ‬وأنا‭ ‬كلي‭ ‬ثقة‭ ‬أننا‭ ‬سنكون‭ ‬الطرف‭ ‬المنتصر‭ ‬فيها”‭. ‬وبعد‭ ‬عقدين‭ ‬من‭ ‬الزمان‭.. ‬أجبرت‭ ‬واشنطن‭ ‬وبسبب‭ ‬الكلفة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والبشرية‭ ‬على‭ ‬الانسحاب‭. ‬وهو‭ ‬انسحاب‭ ‬أو‭ ‬فشل‭ ‬قد‭ ‬هللت‭ ‬له‭ ‬أصوات‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المواقع‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬فالبعض‭ ‬قد‭ ‬قال‭ ‬عنه‭ ‬هزيمة،‭ ‬وآخرون‭ ‬وهم‭ ‬القلة‭ ‬قد‭ ‬وجدوه‭ ‬انسحابا‭. ‬فكيف‭ ‬فسرت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬هذا‭ ‬الانسحاب‭ ‬وأسبابه‭ (‬مجلة‭ ‬فورين‭ ‬أفيرز،‭ ‬عدد،‭ ‬سبتمبر‭- ‬أكتوبر‭ ‬2021‭). ‬يقول‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬جو‭ ‬بايدن‭ ‬إن‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬الدخول‭ ‬أو‭ ‬الاحتلال‭ ‬الأمريكي‭ ‬لأفغانستان‭ ‬العام‭ ‬2001،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬التأسيس‭ ‬لدولة‭ ‬حديثة‭ ‬أو‭ ‬الإقامة‭ ‬نظاما‭ ‬ديمقراطيا،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬الاحتلال‭ ‬الأمريكي‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬الأمن‭ ‬القومي‭ ‬الأمريكي‭. ‬وهو‭ ‬احتلال‭ ‬أو‭ ‬دخول‭ ‬قد‭ ‬شجع‭ ‬بعد‭ ‬سنتين،‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬باحتلال‭ ‬العراق،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬احتلالها‭ ‬أفغانستان‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬سهلا‭ ‬في‭ ‬بادئ‭ ‬أمره‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬سببا‭ ‬مشجعا‭ ‬لاحتلال‭ ‬العراق‭. ‬وهو‭ ‬احتلال‭ ‬لم‭ ‬يقد‭ ‬أبدا،‭ ‬كما‭ ‬أُعلن‭ ‬في‭ ‬بادئ‭ ‬أمره،‭ ‬للتأسيس‭ ‬لحالة‭ ‬من‭ ‬الاستقرار‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬تأسيس‭ ‬الديمقراطية‭ ‬أو‭ ‬تحقيق‭ ‬نهوض‭ ‬اقتصادي‭ ‬واجتماعي‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الاحتلال‭ ‬قاد‭ ‬لحالة‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭ ‬السياسية‭ ‬والأمنية‭ ‬لم‭ ‬يهدأ‭ ‬العراق‭ ‬منذ‭ ‬حينها‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬احتلالها‭ ‬هذا‭ ‬قد‭ ‬قاد‭ ‬إلى‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬اللاتوازن‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الأمن‭ ‬الإقليمي‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭. ‬

إن‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬للإقدام‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬تصورها‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬تصور‭ ‬التيار‭ ‬السياسي‭ ‬المحافظ‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬هذين‭ ‬الاحتلالين‭ ‬قد‭ ‬يقودان‭ ‬إلى‭ ‬تشكيل‭ ‬نماذج‭ ‬سياسية‭ ‬واقتصادية‭ ‬جديدة‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬محيطها‭ ‬الجغرافي‭. ‬وبالتالي‭ ‬التأسيس‭ ‬لحالة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الحداثة‭ ‬والتنمية‭ ‬تفتقر‭ ‬إليها‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية،‭ ‬وهو‭ ‬اعتقاد‭ ‬لم‭ ‬يقُد‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬خيبات‭ ‬سياسية‭ ‬واقتصادية‭ ‬والتأسيس‭ ‬إلى‭ ‬الدولة‭ ‬الفاشلة‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭.‬

فتجربة‭ ‬الصعود‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والسياسي‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬الغربية‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬مثلت‭ ‬حينها‭ ‬لحظة‭ ‬تاريخية‭ ‬لم‭ ‬تتحقق‭ ‬بذات‭ ‬الزخم‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬الشرقية‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬أنظمتها‭ ‬الشمولية‭ ‬في‭ ‬تسعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬التجربتين‭ ‬الآسيويتين‭ ‬الناجحتين‭ ‬في‭ ‬الصعود‭ ‬الاقتصادي‭ ‬هي‭ ‬التجربة‭ ‬اليابانية‭ ‬والكورية‭ ‬الجنوبية‭. ‬وهي‭ ‬تجارب‭ ‬لم‭ ‬تتكرر‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭. ‬فالتأسيس‭ ‬مثلا‭ ‬لنظام‭ ‬من‭ ‬الملكية‭ ‬الدستورية‭ ‬في‭ ‬اليابان‭ ‬وإقامة‭ ‬نظاما‭ ‬ديمقراطيا‭ ‬متطورا‭ ‬اقتصاديا‭ ‬في‭ ‬كوريا‭ ‬الجنوبية‭ ‬ودعم‭ ‬صعود‭ ‬تايوان‭ ‬كنظام‭ ‬مستقر‭ ‬سياسيا‭ ‬ومتطور‭ ‬اقتصاديا‭ ‬كانت‭ ‬كلها‭ ‬بفعل‭ ‬التدخل‭ ‬الأمريكي،‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬تاريخي‭ ‬وسياسي‭ ‬وثقافي‭ ‬داخلي‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬السياقات‭ ‬الشرق‭ ‬أوسطية‭ ‬ذات‭ ‬الأنماط‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬الساكنة‭ ‬وذات‭ ‬السياق‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ولربما‭ ‬الديني‭ ‬المؤكد‭ ‬لحالتها‭ ‬السكونية،‭ ‬والمؤكد‭ ‬كذلك‭ ‬لاستمرارية‭ ‬ذات‭ ‬الأنماط‭ ‬والممارسات‭ ‬عبر‭ ‬الزمن‭. ‬وهي‭ ‬كلها‭ ‬سياقات‭ ‬أفشلت‭ ‬محاولات‭ ‬الروس‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬حداثة‭ ‬غربية‭ ‬في‭ ‬أطر‭ ‬ماركسية‭ ‬في‭ ‬أفغانستان،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬ذات‭ ‬المعطيات‭ ‬التي‭ ‬أعجزت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬عن‭ ‬إقامة‭ ‬نموذج‭ ‬المجتمع‭ ‬الحداثي‭ ‬الغربي،‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬بدت‭ ‬الرابطة‭ ‬القبلية‭ ‬ولربما‭ ‬الدينية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬إفشال‭ ‬محاولاتهم،‭ ‬دون‭ ‬إدراك‭ ‬أو‭ ‬وعي‭ ‬لأسباب‭ ‬السقوط‭ ‬الروسي‭ ‬قبلهم،‭ ‬بل‭ ‬دون‭ ‬وعي‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬منذ‭ ‬الإطاحة‭ ‬فيه‭ ‬بالنظام‭ ‬الملكي‭ ‬في‭ ‬سبعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬لم‭ ‬يخلد‭ ‬للاستقرار‭. ‬فالسنوات‭ ‬التي‭ ‬خلت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬مرورا‭ ‬بالتدخل‭ ‬السوفيتي،‭ ‬ثم‭ ‬سنوات‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬المدمرة،‭ ‬وبعدها‭ ‬صعود‭ ‬طالبان‭ ‬للسلطة،‭ ‬كلها‭ ‬تشي‭ ‬بمعضل‭ ‬اجتماعي‭ ‬سياسي‭ ‬عميق‭ ‬قد‭ ‬تشكل‭ ‬فيها‭ ‬مع‭ ‬رحيل‭ ‬النظام‭ ‬الملكي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ماسكا‭ ‬بقدر‭ ‬مهم‭ ‬من‭ ‬توازن‭ ‬هياكلها‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬الداخلية،‭ ‬والذي‭ ‬اهتز‭ ‬مع‭ ‬أول‭ ‬محاولة‭ ‬للعبث‭ ‬بآليات‭ ‬توازنه‭. ‬وهو‭ ‬اهتزاز‭ ‬لم‭ ‬يستقر‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬محاولة‭ ‬تغيير‭ ‬سياسي‭ ‬جذري‭ ‬في‭ ‬نظامها‭ ‬السياسي‭ ‬وبنائها‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فطبيعة‭ ‬البناء‭ ‬الاجتماعي‭-‬الاقتصادي‭ ‬القائم‭ ‬بدا‭ ‬عاجزا‭ ‬عن‭ ‬التكيف‭ ‬مع‭ ‬محاولات‭ ‬الحدثنة‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬مفروضة‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وبدا‭ ‬الأفراد،‭ ‬في‭ ‬الأطراف‭ ‬الفقيرة‭ ‬والتقليدية،‭ ‬رافضين‭ ‬للدفع‭ ‬بهم‭ ‬للانسلاخ‭ ‬من‭ ‬أطر‭ ‬قد‭ ‬تشكلوا‭ ‬في‭ ‬سياقاتها‭ ‬قرونا‭ ‬مضت‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭. ‬فانهيار‭ ‬تجارب‭ ‬التحول‭ ‬الاشتراكي‭ ‬في‭ ‬اليمن‭ ‬الجنوبي‭ ‬وبعدها‭ ‬في‭  ‬الصومال،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬فشل‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬نظاما‭ ‬ديمقراطيا‭ ‬حديثا‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬أفضى‭ ‬إلى‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬نظام‭ ‬المحاصصة‭ ‬العشائرية‭ ‬والمذهبية‭ ‬غير‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬أحداث‭ ‬قدرا‭ ‬من‭ ‬التوافق‭ ‬المجتمعي‭ ‬حولها‭. ‬فدخل‭ ‬العراق،‭ ‬منذ‭ ‬حين،‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭ ‬وفي‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬النكوص‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والثقافي،‭ ‬اُستدعي‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬الأطر‭ ‬التضامنية‭ ‬التقليدية‭ ‬وأنماط‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬الخرافية‭. ‬وهو‭ ‬استدعاء‭ ‬لعبت‭ ‬فيه‭ ‬القوى‭ ‬السياسية‭ - ‬الدينية‭ ‬الجديدة،‭ ‬بكلتا‭ ‬ضفافها‭ ‬ولأغراض‭ ‬سياسية،‭ ‬دورا‭ ‬كبيرا‭ ‬في‭ ‬إذكائه‭. ‬

نقول‭ ‬ذلك‭ ‬رغم‭ ‬إدراكنا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬جيلا‭ ‬جديدا‭ ‬في‭ ‬أفغانستان‭ ‬وتحديدا‭ ‬خلال‭ ‬العقدين‭ ‬الماضيين،‭ ‬وفي‭ ‬مراكزه‭ ‬الرئيسية‭ ‬قد‭ ‬تأثر‭ ‬بالحداثة‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬مع‭ ‬الحضور‭ ‬الأمريكي‭ ‬والغربي‭ ‬في‭ ‬مدنه‭ ‬الرئيسية‭. ‬وهو‭ ‬جيل‭ ‬قد‭ ‬بدا‭ ‬ميتما‭ ‬بعد‭ ‬الرحيل‭ ‬الأمريكي،‭ ‬لا‭ ‬يحمل‭ ‬خيارا‭ ‬غير‭ ‬التكيف‭ ‬مع‭ ‬الحالة‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يأتي‭ ‬معها‭ ‬قدرا‭ ‬كبيرا‭ ‬أو‭ ‬صغيرا‭ ‬من‭ ‬التقييد‭ ‬والموانع‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أو‭ ‬الهجرة‭.‬

إن‭ ‬حالة‭ ‬النكوص‭ ‬السياسي‭ ‬والإخفاق‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الأربعة‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬الماضية،‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬عملية‭ ‬النمو‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬أو‭ ‬بعض‭ ‬أقاليمها،‭ ‬لا‭ ‬تخضع‭ ‬لقاعدة‭ ‬التراكم‭ ‬المتعاظم،‭ ‬وإنما‭ ‬لحالة‭ ‬من‭ ‬التذبذب،‭ ‬الذي‭ ‬يأخذها‭ ‬حينا‭ ‬للصعود‭ ‬وأحيانا‭ ‬أخرى‭ ‬يهوي‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬القاع‭. ‬

فحالات‭ ‬دول‭ ‬مثل‭ ‬سوريا‭ ‬والعراق‭ ‬وليبيا‭ ‬والصومال‭ ‬ولربما‭ ‬غيرها،‭ ‬إن‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬أمثلة‭ ‬مؤكدة‭ ‬للحالة‭ ‬التالية‭ ‬وليس‭ ‬الأولى‭. ‬ولهذه‭ ‬الأسباب‭ ‬بدت‭ ‬المنطقة‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬اختراق‭ ‬اقتصادي‭ ‬ومعرفي‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الحالات‭ ‬الآسيوية‭.. ‬وغيرها‭.‬

لقد‭ ‬اعتادت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬للنظر‭ ‬للدول‭ ‬والمجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تخضع‭ ‬لاحتلالها‭ ‬العسكري‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬التبعية‭ ‬السياسية‭ ‬ولربما‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬وإنما‭ ‬لمحاولة‭ ‬استنساخ‭ ‬بقدر‭ ‬كبير‭ ‬نموذج‭ ‬التجربة‭ ‬الأمريكية‭ ‬فيها‭. ‬أي‭ ‬خلق‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التماهي‭ ‬السياسي‭ ‬والثقافي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬بين‭ ‬المحتل‭ (‬بفتح‭ ‬الفاء‭) ‬والمُحتل‭ (‬بضم‭ ‬الفاء‭). ‬وهي‭ ‬تجربة‭ ‬قد‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬خضعت‭ ‬لقدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الاحتلال‭ ‬العسكري‭ ‬الأمريكي‭. ‬وقد‭ ‬بدا‭ ‬الاحتلال‭ ‬الأمريكي‭ ‬لأفغانستان‭ ‬في‭ ‬سنواتها‭ ‬الأولى‭ ‬مستتبا‭ ‬خصوصا‭ ‬بعد‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬المعاقل‭ ‬الرئيسية‭ ‬لطالبان‭ ‬وجيوب‭ ‬القاعدة‭. ‬إلا‭ ‬أنها،‭ ‬بدأت‭ ‬وخصوصا‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬سنوات‭ ‬احتلالها‭ ‬تواجه‭ ‬قدرا‭ ‬من‭ ‬الممانعة‭ ‬والمقاومة‭ ‬العسكرية‭ ‬والثقافية،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬بدا‭ ‬متزايدا‭ ‬مع‭ ‬مر‭ ‬السنين‭. ‬وهي‭ ‬ممانعة‭ ‬تتصاعد‭ ‬في‭ ‬الأطراف‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬المدن،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬بعض‭ ‬المراكز‭ ‬الحضرية‭ ‬الرئيسية‭ ‬مركزا‭ ‬لهذه‭ ‬الممانعة،‭ ‬وأصبحت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬تبعات‭ ‬ومصاحبات‭ ‬لاحتلالها،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬عسكريا،‭ ‬ولكن‭ ‬هو‭ ‬كذلك‭ ‬اقتصاديا‭ ‬ولربما‭ ‬اجتماعيا‭. ‬فما‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬غير‭ ‬خيار‭ ‬الانسحاب‭. ‬وهو‭ ‬انسحاب‭ ‬قد‭ ‬فسر‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬هزيمة‭ ‬جديدة‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬قوة‭ ‬عالم‭ ‬ثالثية‭ ‬“متخلفة”‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬رفع‭ ‬من‭ ‬درجة‭ ‬القلق‭ ‬عند‭ ‬حلفائها‭ ‬حول‭ ‬العالم‭. ‬وهي‭ ‬مخاوف‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬حماية‭ ‬حلفائها‭ ‬حول‭ ‬العالم،‭ ‬وذلك‭ ‬ما‭ ‬يجانب‭ ‬الواقع‭. ‬إذ‭ ‬ستبقى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الدولة‭ ‬الأقوى‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬رغم‭ ‬بعض‭ ‬ضمور‭ ‬القوة‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬عليها‭. ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬فيها‭ ‬الدول‭ ‬العظمى‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬تبعات‭ ‬احتلالها‭. ‬فهي‭ ‬قد‭ ‬واجهت‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬فيتنام‭ ‬في‭ ‬ستينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وأجبرت‭ ‬على‭ ‬تقليص‭ ‬قوتها‭ ‬وبشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وغيرها،‭ ‬إما‭ ‬لأسباب‭ ‬متعلقة‭ ‬بحجم‭ ‬تكلفته‭ ‬الاقتصادية‭ ‬أو‭ ‬بسب‭ ‬تزايد‭ ‬المقاومة‭ ‬العسكرية‭ ‬لوجودها‭ ‬العسكري‭.‬

وما‭ ‬نريد‭ ‬التأكيد‭ ‬عليه‭ ‬هنا،‭ ‬أن‭ ‬عودة‭ ‬طالبان‭ ‬لحكم‭ ‬أفغانستان،‭ ‬هي‭ ‬عودة‭ ‬لها‭ ‬مصاحباتها‭ ‬على‭ ‬الداخل‭ ‬الأفغاني،‭ ‬ولربما‭ ‬كان‭ ‬أولها‭ ‬رغبة‭ ‬المغادرة‭ ‬لقطاع‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الأفغان،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬بدا‭ ‬مهددا‭ ‬بعودة‭ ‬مشكلة‭ ‬المهاجرين‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬الجوار‭ ‬الأفغاني‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬أوروبا،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬يعكس‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬عقدين‭ ‬من‭ ‬الاحتلال‭ ‬الأمريكي‭ ‬لم‭ ‬يُحسن‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬مستويات‭ ‬الدخل‭ ‬فيها،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عودة‭ ‬طالبا‭ ‬مصحوبة‭ ‬بحملة‭ ‬من‭ ‬الانتقامات‭ ‬لمخالفيها‭ ‬أو‭ ‬رجالات‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تدخل‭ ‬طالبان‭ ‬في‭ ‬صدام‭ ‬مع‭ ‬قوى‭ ‬إسلاموية‭ ‬أخرى‭ ‬وتحدي‭ ‬الإسلاموية‭ ‬الجهادية‭ ‬التي‭ ‬متوقع‭ ‬أن‭ ‬تقود‭ ‬حملة‭ ‬عمليات‭ ‬تقود‭ ‬لاهتزاز‭ ‬الوضع‭ ‬الأمني‭ ‬الداخلي‭.. ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬للحالة‭ ‬الطالبانية‭ ‬الجديدة‭ ‬ارتداداتها‭ ‬على‭ ‬محيطها‭ ‬الإقليمي‭. ‬فطالبان‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬قيل‭ ‬أنها‭ ‬عائدة‭ ‬بفكر‭ ‬وأفق‭ ‬جديد،‭ ‬فإنها‭ ‬ستبقى‭ ‬محكومة‭ ‬بأطرها‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬الإسلاموية،‭ ‬والتي‭ ‬قد‭ ‬تلتقي‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أبعادها‭ ‬الإسلاموية‭ ‬مع‭ ‬إيران،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬تتنافر‭ ‬معها‭ ‬مذهبيا‭. ‬وهي‭ ‬عودة‭ ‬قد‭ ‬هُلل‭ ‬لها‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬الرموز‭ ‬الإسلاموية‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الاقليم‭ ‬العربي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يشي‭ ‬بأن‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬يشجع‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬إحياء‭ ‬الجماعات‭ ‬الإسلاموية‭ ‬التي‭ ‬تلقت‭ ‬منذ‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬ضربات‭ ‬قد‭ ‬أنهكتها،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬تعيد‭ ‬إحياء،‭ ‬ومن‭ ‬جديد،‭ ‬الخلايا‭ ‬النائمة‭ ‬للقاعدة‭ ‬وجماعات‭ ‬داعش‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وسوريا‭. ‬فكما‭ ‬هو‭ ‬واضح‭ ‬أن‭ ‬عودة‭ ‬طالبان‭ ‬للسلطة‭ ‬قد‭ ‬ذهبت‭ ‬أصداؤها‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬محيطها‭ ‬الجغرافي‭ ‬القريب‭. ‬وهي‭ ‬عودة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬ممارساتها‭ ‬والتي‭ ‬تحكمها‭ ‬بعض‭ ‬التغيرات‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الداخل‭ ‬الأفغاتي‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬على‭ ‬العالم‭.‬

وفي‭ ‬الختام،‭ ‬فإنه‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬صحيحا‭ ‬أن‭ ‬البشتون‭ ‬كجماعة‭ ‬اجتماعية‭ ‬قد‭ ‬ينتمون‭ ‬للمذهب‭ ‬الحنفي‭ ‬ذي‭ ‬مسحة‭ ‬أشعرية،‭ ‬والمنتشر‭ ‬بين‭ ‬مسلمي‭ ‬جنوب‭ ‬آسيا،‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬وبفعل‭ ‬تأثيرات‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬الأفغانية‭ ‬ومرحلة‭ ‬طالبان،‭ ‬قد‭ ‬تأثرت‭ ‬بالسلفية‭ ‬الجهادية‭ ‬ولربما‭ ‬المتشددة‭ ‬التي‭ ‬مثلت‭ ‬عصب‭ ‬قوة‭ ‬الجماعات‭ ‬الإسلاموية‭ ‬في‭ ‬تسعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬شكل‭ ‬النموذج‭ ‬الجديد‭ ‬لحنفيتها‭ ‬الآسيوية‭. ‬وهي‭ ‬في‭ ‬ممارساتها‭ ‬متجاوزه‭ ‬لأصول‭ ‬النشأة‭ ‬الحنفية‭ ‬والنزعة‭ ‬الأشعرية‭. ‬وأن‭ ‬قدرا‭ ‬من‭ ‬التشدد‭ ‬سيشكل‭ ‬بعض‭ ‬ممارسات‭ ‬السلطة‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬أفغانستان،‭ ‬بفعل‭ ‬ثقافتها‭ ‬السياسية‭ ‬والأيديولوجية‭ ‬ذات‭ ‬الجذور‭ ‬المتشددة،‭ ‬رغم‭ ‬بعض‭ ‬التغير‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬عليها‭ ‬وهو‭ ‬تغير‭ ‬قد‭ ‬فرضته‭ ‬الواقعية‭ ‬السياسية‭.‬