ومضة قلم

كربلاء البطولة والخلود

| محمد المحفوظ

إذا‭ ‬قيست‭ ‬موقعة‭ ‬كربلاء‭ ‬بحسابات‭ ‬الزمن‭ ‬فإنها‭ ‬أقصر‭ ‬معركة‭ ‬من‭ ‬معارك‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسلاميّ،‭ ‬أي‭ ‬لم‭ ‬تتجاوز‭ ‬بضع‭ ‬ساعات،‭ ‬أمّا‭ ‬بالموازين‭ ‬العسكرية‭ ‬فإنّ‭ ‬كفتي‭ ‬الحرب‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬متكافئة‭ ‬بين‭ ‬الطرفين،‭ ‬فبينما‭ ‬كان‭ ‬عدد‭ ‬أنصار‭ ‬الحسين‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬السبعين‭ ‬مقاتلا‭ ‬إلا‭ ‬بقليل،‭ ‬كان‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬أربعة‭ ‬آلاف‭ ‬مقاتل،‭ ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬قيست‭ ‬بما‭ ‬جرى‭ ‬وما‭ ‬تركت‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬البشري‭ ‬فإنّها‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد‭ ‬كانت‭ ‬حافلة‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأصعدة‭ ‬الإنسانية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والأخلاقية،‭ ‬ويقول‭ ‬المفكر‭ ‬الإسلاميّ‭ ‬الكبير‭ ‬عباس‭ ‬محمود‭ ‬العقاد‭ ‬إن‭ ‬ثورة‭ ‬الحسين‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الثورات‭ ‬العظيمة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬نظير‭ ‬لها‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬أكان‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الدعوات‭ ‬الدينية‭ ‬أو‭ ‬الثورات‭ ‬السياسية‭.‬

في‭ ‬ذكرى‭ ‬هذه‭ ‬الفاجعة‭ ‬الأليمة‭ ‬تستوقفنا‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الدروس،‭ ‬أهمها‭ ‬أنها‭ ‬تمثل‭ ‬محطة‭ ‬بالغة‭ ‬الأهمية‭ ‬لاستثمار‭ ‬مضامينها‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬ما‭ ‬تمر‭ ‬به‭ ‬الأمة‭ ‬من‭ ‬خلل‭ ‬على‭ ‬المستويات‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬فالمشكلة‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬منها‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬اليوم‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬الأنانية‭ ‬المقيتة‭ ‬وحبّ‭ ‬الذات‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬قمة‭ ‬درجات‭ ‬الأنانية،‭ ‬والمتأمل‭ ‬في‭ ‬مجريات‭ ‬الواقعة‭ ‬يلمس‭ ‬الإيثار‭ ‬وإنكار‭ ‬الذات‭ ‬بأجلى‭ ‬صورهما،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نفتقده‭ ‬في‭ ‬واقعنا‭ ‬اليوم‭ ‬بكل‭ ‬أسف‭. ‬الدرس‭ ‬الآخر‭ ‬الأكثر‭ ‬بلاغة‭ ‬تجسد‭ ‬في‭ ‬قيمة‭ ‬التسامح،‭ ‬وما‭ ‬أحوج‭ ‬الأمة‭ ‬والإنسانية‭ ‬إلى‭ ‬النأي‭ ‬عن‭ ‬النزاعات‭ ‬والأحقاد‭ ‬وترسيخ‭ ‬الاعتدال‭ ‬بوصفه‭ ‬طوق‭ ‬النجاة‭ ‬أمام‭ ‬طوفان‭ ‬التعصب‭ ‬والتشرذم‭ ‬مما‭ ‬سمي‭ ‬بـ‭ ‬“آداب‭ ‬الكراهية”‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬المؤرخون‭ ‬وحدهم‭ ‬ولا‭ ‬الكتّاب‭ ‬من‭ ‬استلهموا‭ ‬مشاهد‭ ‬كربلاء،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬كانت‭ ‬حاضرة‭ ‬على‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الشعري‭ ‬العربيّ،‭ ‬فالشاعر‭ ‬الكبير‭ ‬نزار‭ ‬قبانيّ‭ ‬استحضر‭ ‬الواقع‭ ‬الأليم‭ ‬قائلا‭: ‬“جلودنا‭ ‬مختومة‭ ‬بختم‭ ‬كربلاء‭.. ‬قهوتنا‭ ‬مصبوغة‭ ‬من‭ ‬دم‭ ‬كربلاء،‭ ‬حنطتنا‭ ‬معجونة‭ ‬بلحم‭ ‬كربلاء‭.. ‬طعامنا‭ ‬شرابنا‭ ‬عاداتنا‭ ‬راياتنا‭ ‬زهورنا‭ ‬قبورنا‭ ‬جلودنا‭ ‬مختومة‭ ‬بختم‭ ‬كربلاء”،‭ ‬والشاعر‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬يستحضر‭ ‬مأساة‭ ‬كربلاء‭ ‬قائلاً‭: ‬“كنت‭ ‬في‭ ‬كربلاء‭.. ‬قال‭ ‬لي‭ ‬الشيخ‭ ‬إنّ‭ ‬الحسين‭ ‬مات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬جرعة‭ ‬ماء‭.. ‬وتساءلت‭ ‬كيف‭ ‬السيوف‭ ‬استباحت‭ ‬بني‭ ‬الأكرمين‭.. ‬فأجاب‭ ‬مات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬جرعة‭ ‬ماء”‭. ‬السلام‭ ‬على‭ ‬الحسين‭ ‬يوم‭ ‬ولد‭ ‬ويوم‭ ‬استشهد‭ ‬ويوم‭ ‬يبعث‭ ‬حياً‭.‬