“الأهرام” و145 سنة من الصمود

| عبدالنبي الشعلة

في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭ ‬قبل‭ ‬145‭ ‬سنة‭ ‬صدرت‭ ‬جريدة‭ ‬“الأهرام”‭ ‬المصرية‭ ‬لتصبح‭ ‬اليوم‭ ‬أعرق‭ ‬وأقدم‭ ‬صحيفة‭ ‬عربية‭ ‬مستمرة‭ ‬في‭ ‬الصدور‭ ‬من‭ ‬وقتها‭ ‬إلى‭ ‬الآن،‭ ‬ولتكون‭ ‬الأولى‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬صفحات‭ ‬الرأي،‭ ‬ولتبقى‭ ‬صرحًا‭ ‬شامخا‭ ‬من‭ ‬صروح‭ ‬الثقافة‭ ‬والإعلام‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭.‬

وفي‭ ‬البحرين‭ ‬روى‭ ‬لنا‭ ‬الآباء‭ ‬أنه‭ ‬منذ‭ ‬بزوغ‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كان‭ ‬المتعلمون‭ ‬والمثقفون‭ ‬منهم‭ ‬ينتظرون‭ ‬بكل‭ ‬شغف‭ ‬وصول‭ ‬جريدة‭ ‬“الأهرام”،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصلهم‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬صدورها‭ ‬بسبب‭ ‬بطء‭ ‬المواصلات‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وفي‭ ‬البداية‭ ‬كانت‭ ‬تصل‭ ‬نسخة‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬فقط،‭ ‬فكانوا‭ ‬يتسابقون‭ ‬لاستعارتها‭ ‬وتداولها‭ ‬فيما‭ ‬بينهم‭.‬

وبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬تمكينهم‭ ‬من‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الموضوعات‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬فقد‭ ‬جلبت‭ ‬لهم‭ ‬“الأهرام”‭ ‬بين‭ ‬صفحاتها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬مقالات‭ ‬وكتابات‭ ‬أبرز‭ ‬الأدباء‭ ‬والشعراء‭ ‬والمفكرين‭ ‬العرب‭ ‬وصناع‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬منهم‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬وجمال‭ ‬الدين‭ ‬الأفغاني‭ ‬وعبدالله‭ ‬النديم‭ ‬وأحمد‭ ‬لطفي‭ ‬السيد‭ ‬ومحمود‭ ‬سامي‭ ‬البارودي‭ ‬وأحمد‭ ‬شوقي‭ ‬الذي‭ ‬أسبغت‭ ‬عليه‭ ‬“الأهرام”‭ ‬لقب‭ ‬“أمير‭ ‬الشعراء”،‭ ‬وخليل‭ ‬مطران‭ ‬ومصطفى‭ ‬لطفي‭ ‬المنفلوطي‭ ‬وطه‭ ‬حسين‭ ‬وعباس‭ ‬العقاد‭ ‬وحافظ‭ ‬إبراهيم‭ ‬والزعيم‭ ‬مصطفى‭ ‬كامل‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬فطاحل‭ ‬الفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬ورموز‭ ‬التيارات‭ ‬الفكرية‭ ‬السياسية‭ ‬والأدبية‭ ‬المتنوعة‭.‬

وقد‭ ‬ورث‭ ‬جيلنا،‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الستينات‭ ‬والسبعينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬هذا‭ ‬الحرص‭ ‬والشغف‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬“الأهرام”‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬حبنا‭ ‬وتقديرنا‭ ‬وتعلقنا‭ ‬بمصر‭ ‬العزيزة،‭ ‬والتي‭ ‬حملت‭ ‬بين‭ ‬صفحاتها‭ ‬تاريخ‭ ‬مصر‭ ‬وجزءا‭ ‬غير‭ ‬صغير‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭.‬‭ ‬وعندما‭ ‬بدأت‭ ‬الصحف‭ ‬الخليجية‭ ‬في‭ ‬الصدور‭ ‬واستعان‭ ‬معظمها‭ ‬بأقلام‭ ‬من‭ ‬مدرسة‭ ‬“الأهرام”،‭ ‬ظل‭ ‬جيلنا‭ ‬متمسكا‭ ‬بحرصه‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬“الأهرام”‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نشم‭ ‬بين‭ ‬سطورها‭ ‬عبق‭ ‬تاريخ‭ ‬زاخر‭ ‬بالعطاء،‭ ‬يذكرنا‭ ‬بالأعلام‭ ‬والأقلام‭ ‬الشامخة‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬إرساء‭ ‬أسس‭ ‬راسخة‭ ‬لهذه‭ ‬الأداة‭ ‬الإعلامية‭ ‬العريقة،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬الأخوين‭ ‬المؤسسين‭ ‬بشارة‭ ‬وسليم‭ ‬تقلا،‭ ‬اللذين‭ ‬كانا‭ ‬يمتلكان‭ ‬ثقافة‭ ‬فرنسية‭ ‬وعربية‭ ‬غزيرة،‭ ‬ما‭ ‬جعلهما‭ ‬يختطان‭ ‬للأهرام‭ ‬منذ‭ ‬نعومة‭ ‬أظفارها‭ ‬أسلوبا‭ ‬ونهجاً‭ ‬جديدين‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الصحفية،‭ ‬مرورًا‭ ‬بعدد‭ ‬ليس‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬عمالقة‭ ‬الأدب‭ ‬والثقافة‭ ‬الذين‭ ‬ساهموا‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬سمعتها‭ ‬ومكانتها‭.‬

وقد‭ ‬اشتد‭ ‬تعلق‭ ‬البحرينيين،‭ ‬كما‭ ‬باقي‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية،‭ ‬بـ‭ ‬“الأهرام”‭ ‬بعد‭ ‬قيام‭ ‬ثورة‭ ‬23‭ ‬يوليو،‭ ‬خصوصًا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تولى‭ ‬محمد‭ ‬حسنين‭ ‬هيكل‭ ‬رئاسة‭ ‬تحريرها‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1956‭. ‬

فبدوره‭ ‬دشن‭ ‬هيكل‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬البناء‭ ‬والتطور‭ ‬تأسيسًا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬تحقيقه‭ ‬من‭ ‬إنجازات،‭ ‬وأنشأ‭ ‬مركز‭ ‬“الأهرام”‭ ‬للدراسات‭ ‬السياسية‭ ‬والاستراتيجية،‭ ‬واستقطبت‭ ‬الجريدة‭ ‬وقتها‭ ‬قامات‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والمفكرين‭ ‬مثل‭ ‬الدكتور‭ ‬لويس‭ ‬عوض‭ ‬وتوفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬ونجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬والدكتورة‭ ‬بنت‭ ‬الشاطئ‭ ‬ويوسف‭ ‬إدريس‭ ‬وعبدالرحمن‭ ‬الشرقاوي‭ ‬وغيرهم،‭ ‬وأصبحنا‭ ‬نتابع‭ ‬أعمال‭ ‬وروايات‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬ومسرحيات‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬الجريدة،‭ ‬وكنا‭ ‬ننتظر‭ ‬عدد‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬لنقرأ‭ ‬كل‭ ‬حرف‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬محمد‭ ‬حسنين‭ ‬هيكل‭ ‬المعنون‭ ‬“بصراحة”؛‭ ‬لأننا‭ ‬كنا‭ ‬نؤمن‭ ‬بأنه‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬أفكار‭ ‬وآراء‭ ‬الزعيم‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭. ‬

لقد‭ ‬كنا‭ ‬ومازلنا‭ ‬وسنظل‭ ‬نحب‭ ‬مصر‭ ‬وشعبها‭ ‬حتى‭ ‬النخاع،‭ ‬وكنا‭ ‬نحب‭ ‬الزعيم‭ ‬الراحل‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬حب‭ ‬حتى‭ ‬الجنون،‭ ‬وكنا‭ ‬نصفق‭ ‬ونرقص‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬ويفعله،‭ ‬ولذلك‭ ‬وعندما‭ ‬قرر‭ ‬تأميم‭ ‬الصحافة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1960‭ ‬وانتقلت‭ ‬ملكية‭ ‬الصحف‭ ‬من‭ ‬الأفراد‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الخاصة‭ ‬إلى‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بتعيين‭ ‬رؤساء‭ ‬تحريرها‭ ‬ورؤساء‭ ‬مجالس‭ ‬إداراتها‭ ‬وتعزلهم‭ ‬وقتما‭ ‬تشاء،‭ ‬هللنا‭ ‬وكبرنا‭ ‬وصفقنا‭ ‬ورقصنا‭ ‬فرحًا،‭ ‬وفي‭ ‬الواقع،‭ ‬فإننا‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬أكثر‭ ‬حماسة‭ ‬للتأميم‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬كبار‭ ‬الكتاب‭ ‬والمفكرين‭ ‬المصريين،‭ ‬ومن‭ ‬بينهم‭ ‬أصحاب‭ ‬مؤسسات‭ ‬صحافية‭ ‬تم‭ ‬تأميمها‭ ‬أمثال‭ ‬مصطفى‭ ‬وعلي‭ ‬أمين‭ ‬وإحسان‭ ‬عبدالقدوس‭ ‬الذين‭ ‬رحبوا‭ ‬بتلك‭ ‬الخطوة‭ ‬وأيدوها‭ ‬وأكد‭ ‬بعضهم‭ ‬حق‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬إرشاد‭ ‬وتوجيه‭ ‬الرأى‭ ‬العام‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬التأميم،‭ ‬فقد‭ ‬ظلت‭ ‬“الأهرام”‭ ‬في‭ ‬نظرنا‭ ‬وقرارة‭ ‬أنفسنا‭ ‬محافظة‭ ‬على‭ ‬رصانتها‭ ‬ووقارها‭ ‬والتزامها‭ ‬بعدم‭ ‬التفريط‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬تتطلبه‭ ‬المعايير‭ ‬المهنية‭ ‬وقيم‭ ‬الأمانة‭ ‬والدقة‭ ‬والمصداقية‭.‬

وفي‭ ‬المراحل‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬صدورها‭ ‬تمكنت‭ ‬“الأهرام”‭ ‬من‭ ‬التغلب‭ ‬على‭ ‬التحديات‭ ‬والصعوبات‭ ‬المالية‭ ‬والفنية‭ ‬التي‭ ‬واجهتها،‭ ‬ونجحت‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬لتكون‭ ‬الأولى‭ ‬والوحيدة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬التي‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تشكل‭ ‬شبكة‭ ‬من‭ ‬المراسلين‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬مدن‭ ‬العالم،‭ ‬ثم‭ ‬أصبحت‭ ‬“الأهرام”‭ ‬قبيل‭ ‬إطلالة‭ ‬القرن‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬الصحف‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬استشعرت‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مواكبة‭ ‬التطورات‭ ‬التقنية‭ ‬والمهنية‭ ‬التي‭ ‬أحدثتها‭ ‬ثورة‭ ‬المعلومات‭ ‬وشهدها‭ ‬عالم‭ ‬الصحافة‭ ‬والإعلام،‭ ‬فصمدت‭ ‬أمام‭ ‬تحديات‭ ‬ومنافسة‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الحديثة‭ ‬بقنواتها‭ ‬ووسائلها‭ ‬ومنصاتها‭ ‬الرقمية،‭ ‬فتحية‭ ‬للأهرام‭ ‬في‭ ‬عيدها‭ ‬الـ‭ ‬145‭.‬