“صوفيا أنتيبوليس” ومنظومة الابتكار

| م. نبيل بن عبدالرحمن آل محمود

على‭ ‬مدار‭ ‬سنوات،‭ ‬أجريت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬والمسوحات‭ ‬والمؤتمرات‭ ‬حول‭ ‬بناء‭ ‬اقتصادات‭ ‬المعرفة‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬باعتبارها‭ ‬قوة‭ ‬أساسية‭ ‬للتنمية‭ ‬الاقتصادية‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬“مشاركة‭ ‬المعرفة”‭ ‬هي‭ ‬العنصر‭ ‬الذي‭ ‬يُسرّع‭ ‬ويُعمّق‭ ‬عمليات‭ ‬التنمية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬تُمكّن‭ ‬من‭ ‬الابتكار‭ ‬وتسريع‭ ‬الابتكار‭ ‬وخلق‭ ‬فرص‭ ‬عمل‭. ‬فالهدف‭ ‬النهائي‭ ‬لاقتصاد‭ ‬“مشاركة‭ ‬المعرفة”‭ ‬هو‭ ‬خلق‭ ‬ثقافة‭ ‬ابتكار‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬منظومة‭ ‬متكاملة‭ ‬للابتكار‭ ‬بكل‭ ‬جوانبها‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ - ‬ومنها‭ ‬مجلس‭ ‬التعاون‭ ‬الخليجي‭ - ‬سعت‭ ‬ومازالت‭ ‬تسعى،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الحقيقة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬الغالبية‭ ‬لم‭ ‬تتمكّن‭ ‬من‭ ‬خلق‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬ولا‭ ‬هذه‭ ‬المنظومة‭ ‬بعد‭ ‬ويُعزى‭ ‬ذلك‭ ‬لعدم‭ ‬وجود‭ ‬استراتيجية‭ ‬وطنية‭ ‬للابتكار‭ ‬بتلك‭ ‬الدول‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬فقدان‭ ‬تنفيذ‭ ‬عمليات‭ ‬تقييم‭ ‬شاملة‭ ‬لمنظومة‭ ‬الابتكار‭ ‬الحالية‭ ‬لتعريف‭ ‬المنظومة‭ ‬وبيان‭ ‬التحديات‭ ‬والفرص‭ ‬ورسم‭ ‬خريطة‭ ‬الطريق‭ ‬ووضع‭ ‬المعايير‭ ‬وتأسيس‭ ‬مسرّعات‭ ‬ابتكار‭ ‬وتحديد‭ ‬برامج‭ ‬المهارات‭ ‬الناعمة،‭ ‬تلك‭ ‬العملية‭ ‬تشمل‭ ‬جميع‭ ‬الشركاء‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬الابتكار‭ ‬الحالية‭ ‬كجهات‭ ‬رسمية‭ ‬أو‭ ‬خاصة‭ ‬أو‭ ‬أهلية‭ ‬مما‭ ‬ينتج‭ ‬عنه‭ ‬تعريف‭ ‬منظومة‭ ‬الابتكار‭ ‬المستقبلية‭ ‬المراد‭ ‬بلوغها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الدولة‭ ‬بمؤسساتها‭ ‬المعنية‭ ‬كأقطاب‭ ‬أساسية‭. ‬فما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬هو‭ ‬أحادية‭ ‬عمل‭ ‬كل‭ ‬جهة‭ ‬وانعزالها‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬التميُّـز‭ ‬والتقدير‭ ‬بمنأى‭ ‬عن‭ ‬البقية‭. ‬

في‭ ‬المقابل،‭ ‬نجحت‭ ‬دول‭ ‬متقدمة‭ ‬غربًا‭ ‬ودول‭ ‬ناشئة‭ ‬شرقًا‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬ثقافة‭ ‬ابتكار‭ ‬وبناء‭ ‬منظومة‭ ‬ابتكار‭ ‬تخطّت‭ ‬بها‭ ‬دولًا‭ ‬سبقتها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بل‭ ‬أسست‭ ‬مناطق‭ ‬تُعنى‭ ‬بالابتكار‭ ‬وإثارة‭ ‬مفاهيمه‭ ‬ودعم‭ ‬شركائه‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬وحّدت‭ ‬جهود‭ ‬الجميع‭ ‬دون‭ ‬تداخل‭ ‬مسؤوليات‭ ‬جهة‭ ‬مع‭ ‬أخرى‭ ‬ودون‭ ‬إقصاء‭ ‬جهة‭ ‬لحساب‭ ‬أخرى‭. ‬ومن‭ ‬مناطق‭ ‬الابتكار‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬بـ‭ ‬“مجمعات‭ ‬العلوم‭ ‬والتكنولوجيا”،‭ ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬تمكّنت‭ ‬فرنسا‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬هذا‭ ‬الإنجاز‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إنشاء‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المجمعات‭ ‬إبداعًا‭ ‬في‭ ‬العالم‭: ‬“منطقة‭ ‬صوفيا‭ ‬أنتيبوليس‭ ‬للعلوم‭ ‬والتكنولوجيا”،‭ ‬وهي‭ ‬المنطقة‭ ‬رقم‭ ‬1‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬إذ‭ ‬تمثل‭ ‬صوفيا‭ ‬أنتيبوليس‭ ‬منظومة‭ ‬ابتكار‭ ‬متكاملة‭ ‬لرعاية‭ ‬العمليات‭ ‬التنظيمية‭ ‬التي‭ ‬تقدّر‭ ‬الابتكار‭ ‬وتدعمه،‭ ‬وقد‭ ‬تمكّنت‭ ‬من‭ ‬تأسيس‭ ‬إطار‭ ‬عمل‭ ‬للابتكار‭ ‬فأصبح‭ ‬مستدامًا‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت،‭ ‬وتم‭ ‬رعايته‭ ‬على‭ ‬مـرّ‭ ‬السنين‭ ‬فأدّى‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬40‭,‬000‭ ‬وظيفة‭ ‬وجذب‭ ‬3000‭ ‬شركة‭ ‬عملت‭ ‬من‭ ‬الصفر‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬صحراوية‭ ‬خضراء‭. ‬

ويُعزى‭ ‬نجاح‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬لأن‭ ‬البيئات‭ ‬المتنوعة‭ ‬وغير‭ ‬المتجانسة‭ ‬يُمكن‭ ‬أن‭ ‬تستفيد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الاستراتيجيات‭ ‬المبتكرة،‭ ‬مثل‭ ‬تزويد‭ ‬رواد‭ ‬الأعمال‭ ‬بالدعم‭ ‬لتطوير‭ ‬أفكارهم‭ ‬ومشاريعهم‭ ‬المبتكرة،‭ ‬وطبعًا‭ ‬“مشاركة‭ ‬المعرفة”‭ ‬هي‭ ‬الأهم‭ ‬لأن‭ ‬التخصيب‭ ‬المتبادل‭ ‬للكفاءات‭ ‬يُمكّن‭ ‬الأفكار‭ ‬من‭ ‬الازدهار‭ ‬والانتشار‭ ‬وزيادة‭ ‬التأثير‭ ‬الإيجابي‭ ‬في‭ ‬البيئة‭ ‬المحيطة‭. ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬منطقة‭ ‬صوفيا‭ ‬أنتيبوليس‭ ‬مثالًا‭ ‬رائعًا‭ ‬لعملية‭ ‬تعريض‭ ‬الموظفين‭ ‬لطرق‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬المتقدّم‭ ‬ونقل‭ ‬عقلياتهم‭ ‬من‭ ‬تفكير‭ ‬نمطي‭ ‬إلى‭ ‬تفكير‭ ‬ابتكاري‭ ‬عبر‭ ‬“مشاركة‭ ‬المعرفة”‭. ‬

وأدى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬ظهور‭ ‬منظومة‭ ‬ابتكارية‭ ‬لافتة‭ ‬لديها‭ ‬قدرة‭ ‬تحويل‭ ‬الأفكار‭ ‬إلى‭ ‬واقع،‭ ‬ما‭ ‬قاد‭ ‬لتطوير‭ ‬صناعات‭ ‬ابتكارية‭ ‬جديدة‭ ‬مثل‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬البيانات‭ ‬الضخمة،‭ ‬السيارات‭ ‬المستقلة‭ ‬وما‭ ‬شاكل،‭ ‬فذاك‭ ‬ما‭ ‬يخلق‭ ‬الثروة‭ ‬والوظائف‭ ‬التخصصية‭.‬