سوالف

نهاية جزء من أجمل ذكريات أهالي مدينة عيسى

| أسامة الماجد

أية‭ ‬مرارة‭ ‬في‭ ‬النفس‭ ‬شعرت‭ ‬بها‭ ‬عندما‭ ‬عرفت‭ ‬أن‭ ‬أقدم‭ ‬وأشهر‭ ‬مطعم‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬عيسى‭ ‬والذي‭ ‬تعاقبت‭ ‬عليه‭ ‬أجيال‭ ‬كثيرة،‭ ‬قد‭ ‬أغلق‭ ‬نهائيا‭ ‬ونقل‭ ‬إلى‭ ‬مدافن‭ ‬النسيان‭ ‬وتم‭ ‬عرض‭ ‬المحل‭ ‬للبيع،‭ ‬نعم‭.. ‬كل‭ ‬من‭ ‬يقطن‭ ‬مدينة‭ ‬عيسى‭ ‬يعرف‭ ‬هذا‭ ‬المطعم‭ ‬الذي‭ ‬افتتح‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬السبعينات‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬محطة‭ ‬البنزين‭ ‬القديمة‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬شارع‭ ‬بغداد،‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا‭ ‬كبهاء‭ ‬القصور‭ ‬ويستحيل‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يزور‭ ‬مدينة‭ ‬عيسى‭ ‬الجميلة‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬المطعم‭ ‬ويجرب‭ ‬أطباقه‭ ‬الهندية‭ ‬الشهيرة‭ ‬كالبرياني،‭ ‬والقيمة،‭ ‬والناشف،‭ ‬والجباتي،‭ ‬عن‭ ‬نفسي‭ ‬كان‭ ‬يأخذني‭ ‬والدي‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬مع‭ ‬شقيقي‭ ‬وليد‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬صباح‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬جمعة‭ ‬مشيا‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬إلى‭ ‬المطعم‭ ‬كنزهة‭ ‬نهاية‭ ‬الأسبوع،‭ ‬ونشعر‭ ‬حينها‭ ‬بأننا‭ ‬مسافرون‭ ‬عبر‭ ‬العالم‭ ‬ونتحدى‭ ‬عين‭ ‬الشمس‭ ‬من‭ ‬الفرحة،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬نصل‭ ‬حوالي‭ ‬الساعة‭ ‬الثامنة‭ ‬صباحا‭ ‬إلا‭ ‬والمطعم‭ ‬يسكب‭ ‬بالعناق‭ ‬قصائد‭ ‬الترحيب‭ ‬بالناس‭ ‬والعوائل‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الأعمار،‭ ‬والجميع‭ ‬كان‭ ‬يسبح‭ ‬في‭ ‬الفرح‭ ‬المتفجر‭ ‬والأسنان‭ ‬تأكل‭ ‬بتلذذ‭ ‬وشوق‭.‬

كم‭ ‬مرة‭ ‬سنكتب‭ ‬المراثي‭ ‬والبكائيات‭ ‬ونحن‭ ‬نشهد‭ ‬زوال‭ ‬ونهاية‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬أروع‭ ‬وأجمل‭ ‬ذكرياتنا‭ ‬كأهالي‭ ‬مدينة‭ ‬عيسى،‭ ‬فهذا‭ ‬المطعم‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مطعما‭ ‬عاديا‭ ‬كأي‭ ‬مطعم‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬أية‭ ‬منطقة،‭ ‬إنما‭ ‬ارتبط‭ ‬بضحكات‭ ‬الأبناء‭ ‬وطعم‭ ‬نضجهم‭ ‬وأناشيد‭ ‬الحب‭ ‬والفرح‭ ‬وأشجان‭ ‬الماضي،‭ ‬بل‭ ‬وكان‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬أذكر‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الثمانينات‭ ‬ملتقى‭ ‬للعشاق‭ ‬والرسائل‭ ‬الغرامية‭ ‬العجيبة،‭ ‬حيث‭ ‬البراءة‭ ‬صافية‭ ‬الوجه‭ ‬وطيبة‭ ‬الناس‭ ‬البسطاء‭ ‬تغطي‭ ‬وجه‭ ‬الكون،‭ ‬فلعذوبة‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬سر‭ ‬وخاصية‭ ‬روحية‭ ‬كنبض‭ ‬الخلود‭.‬

عندما‭ ‬تفقد‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬ذكريات‭ ‬طفولتك‭ ‬الجميلة‭ ‬تكون‭ ‬طعما‭ ‬لنسور‭ ‬الحزن‭ ‬والألم،‭ ‬وتشعر‭ ‬أن‭ ‬الحنين‭ ‬يطعنك‭ ‬في‭ ‬الخاصرة،‭ ‬فكل‭ ‬مكان‭ ‬عشت‭ ‬فيه‭ ‬يحكي‭ ‬قصة،‭ ‬لكننا‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬ماذا‭ ‬تخبئ‭ ‬لنا‭ ‬الأعماق‭ ‬المجهولة‭ ‬المظلمة،‭ ‬ولا‭ ‬أين‭ ‬يتوقف‭ ‬بنا‭ ‬القدر‭ ‬وتنطفئ‭ ‬مصابيح‭ ‬الذكرى،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نعرفه‭ ‬يقينا‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الأماكن‭ ‬منقوشة‭ ‬بحروف‭ ‬من‭ ‬نور‭ ‬وضاء‭ ‬في‭ ‬قلوبنا‭ ‬لغاية‭ ‬البكاء‭ ‬الأخير‭.‬