عمود أكاديمي

التكلفة الثقافية لجائحة الكورونا

| د. باقر النجار

لم‭ ‬يخبر‭ ‬العالم‭ ‬بكل‭ ‬قطاعاته‭ ‬ودوله‭ ‬تجربة‭ ‬كتجربته‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭. ‬فهي‭ ‬قد‭ ‬أعادت‭ ‬تشكيل‭ ‬شبكة‭ ‬علاقات‭ ‬الأفراد‭ ‬الاجتماعية‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬قد‭ ‬حدت‭ ‬من‭ ‬فاعلية‭ ‬قطاعات‭ ‬كثيرة‭ ‬كانت‭ ‬فاعلة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭. ‬وأضعفت‭ ‬من‭ ‬قدرات‭ ‬الأنظمة‭ ‬السياسية‭ ‬على‭ ‬المبادرة،‭ ‬بل‭ ‬وأضعفت‭ ‬قدرة‭ ‬البعض‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬الجائحة،‭ ‬وبدت‭ ‬الدول‭ ‬إلا‭ ‬القليل‭ ‬منها‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬انتشار‭ ‬المرض،‭ ‬ولربما‭ ‬تطرح‭ ‬تجربة‭ ‬الهند‭ ‬وبعض‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬كتونس‭ ‬وغيرها،‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬المتحور‭ ‬الهندي‭ (‬دلتا‭)‬،‭ ‬تضاؤل‭ ‬قدرة‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬الفيروس‭. ‬وتحكي‭ ‬قصة‭ ‬انهيار‭ ‬الأنظمة‭ ‬الصحية‭ ‬صورة‭ ‬مؤلمة‭ ‬بما‭  ‬أحدثته‭ ‬الجائحة‭ ‬من‭ ‬كارثة‭ ‬ولربما‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬كارثة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المجتمعات‭. ‬

ووفق‭ ‬تقديرات‭ ‬جامعة‭ ‬جون‭ ‬هوبكنز‭ ‬الأمريكية‭ ‬حتى‭ ‬شهر‭ ‬يولية‭ ‬لعام‭ ‬2021،‭ ‬أن‭ ‬الجائحة‭ ‬قد‭ ‬أودت‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬بحياة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعة‭ ‬ملايين‭ ‬شخص‭ ‬وأكثر‭ ‬من200‭ ‬مليون‭ ‬أصابة‭ (‬هناك‭ ‬بعض‭ ‬التقديرات‭ ‬غير‭ ‬الرسمية‭ ‬وغير‭ ‬المؤكدة‭ ‬والتي‭ ‬تداولتها‭ ‬بعض‭ ‬المواقع‭ ‬الإخبارية‭ ‬ومواقع‭ ‬السوشيل‭ ‬ميديا،‭ ‬والتي‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬المتحور‭ ‬الهندى‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬حصد‭ ‬في‭ ‬الهند‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬ملايين‭ ‬شخص‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الأخر‭ ‬يقدرها‭ ‬بأربعة‭ ‬ملايين‭). ‬فالفايروس‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬بات‭ ‬قادرا‭ ‬وفي‭ ‬عجز‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المجتمعات‭ ‬على‭ ‬توفير‭ ‬ونشر‭ ‬اللقاح‭ ‬بين‭ ‬سكانها‭ ‬بشكل‭ ‬يفوق‭ ‬حاجز‭ ‬70‭ %-‬80‭ %‬،‭ ‬فإن‭ ‬الفايروس‭ ‬سيعود‭ ‬إلينا‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬بموجة‭ ‬أقوى‭ ‬وأشد‭ ‬فتكا‭. ‬فتجارب‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المجتمعات‭ ‬في‭ ‬محاصرة‭ ‬الفايروس‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬اللقاح،‭ ‬باتت‭ ‬الآن‭ ‬كما‭ ‬تقول‭ ‬مجلة‭ ‬الفورين‭ ‬أفيرز‭ ‬في‭ ‬عددها‭ ‬الأخير،‭ ‬يواجه‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬تحدي‭ ‬إعادة‭ ‬الانتشار‭.‬

وهذا‭ ‬لا‭ ‬ينطبق‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬طبقت‭ ‬إجراءات‭ ‬صارمة‭ ‬في‭ ‬التباعد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والحجر‭ ‬كتايوان‭ ‬وفيتنام‭ ‬وإنما‭ ‬دول‭ ‬كانت‭ ‬ناجحة‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬التلقيح‭ ‬بين‭ ‬سكانها‭ ‬لعدد‭ ‬يفوق‭ ‬70‭ % ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬بعض‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭. ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الفايروس‭ ‬كما‭ ‬الفيروسات‭ ‬الأخرى‭ ‬بات‭ ‬قادرا‭ ‬للعيش‭ ‬بيننا‭ ‬وإعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬نفسه‭ ‬بموجات‭ ‬جديدة،‭ ‬لربما‭ ‬لأجيال‭ ‬قادمة،‭ ‬وأن‭ ‬مواجهته‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬متعلقة‭ ‬فقط‭ ‬بالإمكانات‭ ‬المادية‭ ‬والفنية‭ ‬المتاحة‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬قدرة‭ ‬الدول‭ ‬والمجتمعات‭ ‬على‭ ‬صياغة‭ ‬استراتيجيات‭ ‬بعيدة‭ ‬المدى‭ ‬وإدارة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬الأزمة‭. ‬فكلما‭ ‬كانت‭ ‬عمليات‭ ‬تلقيح‭ ‬السكان‭ ‬متباطئة‭ ‬ساعد‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬انتشار‭ ‬الوباء،‭ ‬وكلما‭ ‬كانت‭ ‬معرفتنا‭ ‬أكبر‭ ‬بأي‭ ‬اللقاحات‭ ‬أفضل‭ ‬لأي‭ ‬المتحورات‭ ‬كان‭ ‬المجتمع‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬محاصرة‭ ‬الوباء‭ ‬ومنع‭ ‬انتشاره‭. ‬ولا‭ ‬أعتقد‭ ‬أننا‭ ‬قادرون‭ ‬على‭ ‬تجاوز‭ ‬الجائحة‭ ‬قبل‭ ‬عام‭ ‬2024‭ ‬ولربما‭ ‬لن‭ ‬تعود‭ ‬الحياة‭ ‬إلى‭ ‬طبيعتها‭ ‬السابقة‭ ‬قبل‭ ‬عام‭ ‬2026‭. (‬مجلة‭ ‬الفورين‭ ‬أفيرز‭ ‬عدد‭ ‬يوليه‭-‬أغسطس2021‭).‬

ولم‭ ‬تعد‭ ‬الجائحة‭ ‬محصورة‭ ‬في‭ ‬آثارها‭ ‬الصحية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬قد‭ ‬أصابت‭ ‬كل‭ ‬أوجه‭ ‬الحياة‭ ‬المختلفة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬والسياسية‭. ‬وأن‭ ‬عمق‭ ‬تأثيرها‭ ‬بات‭ ‬يطرح‭ ‬تساؤولات‭ ‬حول‭ ‬مستقبل‭ ‬الثقافة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬استقرت‭ ‬عليها‭ ‬حياة‭ ‬المجتمعات‭ ‬لعقود‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬بعضها‭ ‬لقرون‭ ‬من‭ ‬الزمن‭. ‬فمصاحبات‭ ‬الجائحة‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬العمق‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تبدو‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬المرحلة‭ ‬السابقة‭ ‬لها‭ ‬ممكنة‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬المنظور‭. ‬فجل‭ ‬النشاط‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تقوم‭ ‬عليه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬اقتصادات‭ ‬العالم‭ ‬وينخرط‭ ‬في‭ ‬إنتاجه‭ ‬مئات‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬قد‭ ‬توقف‭ ‬في‭ ‬بعضه‭ ‬توقفا‭ ‬كاملا‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬ثقافة‭ ‬العمل‭ ‬التقليدية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬أدائه‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬العمل،‭ ‬وبفعل‭ ‬الجائحة،‭ ‬قد‭ ‬تغيرت‭ ‬مضامينه‭ ‬التقليدية‭ ‬تغيرا‭ ‬كبيرا‭. ‬وأن‭ ‬فكرة‭ ‬إنجاز‭ ‬العمل‭ ‬عن‭ ‬بعد،‭ ‬والتي‭ ‬بات‭ ‬أداء‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬تتم‭ ‬من‭ ‬خلالها،‭ ‬تطرح‭ ‬تساؤلات‭ ‬حول‭ ‬حجم‭ ‬إنتاجيته‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الجائحة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬فكرة‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الرزق‭ ‬التي‭ ‬تشكلت‭ ‬عبر‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬الإنساني‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬مطروحة‭ ‬للتغير،‭ ‬وهو‭ ‬تغير‭ ‬مازال‭ ‬في‭ ‬مخاضاته‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬ترتقي‭ ‬لأن‭ ‬تحدث‭ ‬تحولا‭ ‬مهما‭ ‬في‭ ‬فكرة‭ ‬العمل‭ ‬وطبيعته‭ ‬ووظيفته‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬خالها‭ ‬باتت‭ ‬تنسج‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العلاقات‭ ‬والتشكيلات‭ ‬الاجتماعية‭. ‬وبالمثل‭ ‬باتت‭ ‬تطرح‭ ‬الآن‭ ‬تساؤلات‭ ‬حول‭ ‬إنتاجية‭ ‬التعليم‭ ‬عن‭ ‬بعد‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬تزويد‭ ‬الداخلين‭ ‬فيه‭ ‬بالمهارات‭ ‬الثقافية‭ ‬والمعرفية‭ ‬والعلمية‭ ‬المطلوبة‭. ‬والتي‭ ‬بات‭ ‬أكبر‭ ‬ضحاياه‭ ‬فئات‭ ‬ذوي‭ ‬الحاجات‭ ‬الخاصة‭ ‬الذين‭ ‬يحتاجون‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬التفاعل‭ ‬المباشر‭ ‬أفقدهم‭ ‬أياه‭ ‬التعليم‭ ‬عن‭ ‬بعد‭. ‬فتدهور‭ ‬نتيجة‭ ‬لذلك‭ ‬تحصيلهم‭ ‬كما‭ ‬تدهور‭ ‬تحصيل‭ ‬الآخرين‭. ‬فانتشر‭ ‬نتيجة‭ ‬له‭ ‬ظاهرة‭ ‬تقاعس‭ ‬بعض‭ ‬أعضاء‭ ‬هيئة‭ ‬التدريس‭ ‬عن‭ ‬أداء‭ ‬واجباتهم‭ ‬التدريسية‭ ‬على‭ ‬أكمل‭ ‬وجه‭ ‬نتيجة‭ ‬لأسباب‭ ‬عدة‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬منها‭ ‬ضعف‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تطويع‭ ‬الأدوات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬الجديدة‭ ‬للعمليةa‭ ‬التدريسية‭. ‬كما‭ ‬انتشرت‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬الطلبة‭ ‬ظاهرة‭ ‬التغيب‭ ‬المتكرر‭ ‬عن‭ ‬الحضور‭ ‬وفي‭ ‬انتشار‭ ‬ظاهرة‭ ‬الغش‭ ‬في‭ ‬الامتحانات،‭ ‬وضعف‭ ‬التقنيات‭ ‬الجديدة‭ ‬عن‭ ‬ضبطه‭ ‬أو‭ ‬الحد‭ ‬منه‭.‬

من‭ ‬الناحية‭ ‬الأخرى،‭ ‬فإن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأنشطة‭ ‬الثقافية‭ ‬كالعروض‭ ‬المسرحية‭ ‬والموسيقية‭ ‬والمعارض‭ ‬الفنية‭ ‬والعروض‭ ‬السينمائية‭ ‬قد‭ ‬توقفت‭ ‬أو‭ ‬قل‭ ‬مرتادوها‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬افتتاحها‭ ‬الجزئي‭.. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬العروض‭ ‬الفنية‭ ‬الفردية‭ ‬التي‭ ‬تقام‭ ‬بصورة‭ ‬غير‭ ‬رسمية‭ ‬في‭ ‬الفضاءات‭ ‬المفتوحة‭ ‬وفي‭ ‬الحدائق‭ ‬العامة‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬توقيفها‭ ‬وانقطع‭ ‬عن‭ ‬أفرادها‭ ‬مصدر‭ ‬كان‭ ‬يدر‭ ‬عليهم‭ ‬بعض‭ ‬الرزق‭. ‬وأن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المسارح‭ ‬والفرق‭ ‬الموسيقية‭ ‬الخاصة‭ ‬قد‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬السوق،‭ ‬وبعد‭ ‬عام‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬العام‭ ‬من‭ ‬الجائحة،‭ ‬أصبحت‭ ‬هذه‭ ‬الفرق‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬التكلفة‭ ‬المالية‭ ‬الباهظة‭ ‬لهذا‭ ‬التعطل‭. ‬وأن‭ ‬تراكم‭ ‬الديون‭ ‬على‭ ‬بعضها‭ ‬قد‭ ‬عرض‭ ‬بعض‭ ‬أفرادها‭ ‬إلى‭ ‬المساءلة‭ ‬القانونية‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬ستنتهي‭.‬

من‭ ‬الناحية‭ ‬الأخرى،‭ ‬فإن‭ ‬هوس‭ ‬وشغف‭ ‬الناس‭ ‬بارتياد‭ ‬المتاحف‭ ‬والمسارح‭ ‬والعروض‭ ‬الفنية‭ ‬والموقع‭ ‬الأثرية‭ ‬قد‭ ‬توقف‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬انتهى‭. ‬وتغيرت‭ ‬معها‭ ‬عادة‭ ‬تناول‭ ‬الطعام‭ ‬في‭ ‬الخارج،‭ ‬والذي‭ ‬على‭ ‬أساسها‭ ‬تأسست‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المطاعم‭ ‬الإثنية‭ ‬والقومية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم،‭ ‬والتي‭ ‬استقطبت‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬السنين‭ ‬الماضية‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬السياح‭ ‬والمسافرين‭. ‬فانقطع‭ ‬السياح‭ ‬عنها‭ ‬وانقطع‭ ‬بالتالي‭ ‬مجال‭ ‬رزقهم‭ ‬ولربما‭ ‬تخلخلت‭ ‬منظومة‭ ‬علاقاتهم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تشكلت‭ ‬خلال‭ ‬السنين‭ ‬الماضية‭. ‬وهي‭ ‬قطاعات‭ ‬سياحية‭ ‬غير‭ ‬رسمية،‭ ‬كانت‭ ‬تعيش‭ ‬على‭ ‬وفرة‭ ‬من‭ ‬السياح‭ ‬قد‭ ‬توقفت‭ ‬عن‭ ‬العمل،‭ ‬وباتت‭ ‬عودتها‭ ‬مع‭ ‬إطالة‭ ‬مدد‭ ‬الإقفال‭ ‬بسبب‭ ‬الجائحة‭ ‬لا‭ ‬تبدو‭ ‬قريبة‭.‬    

‭ ‬كما‭ ‬توقفت‭ ‬نتيجة‭ ‬للجائحة‭ ‬المعارض‭ ‬الثقافية‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يتمثل‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬الأسابيع‭ ‬الثقافية‭ ‬وفي‭ ‬معارض‭ ‬الكتاب‭ ‬السنوي‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬عند‭ ‬البعض‭ ‬فرصته‭ ‬الوحيدة‭ ‬في‭ ‬اقتناء‭ ‬الكتاب‭ ‬الجديد‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الالتقاء‭ ‬بكاتبه‭. ‬وتضررت‭ ‬نتيجة‭ ‬لذلك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المعارض‭ ‬تمثل‭ ‬مصدر‭ ‬أساسيا‭ ‬للدخل،‭ ‬فأصبح‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬حتى‭ ‬الكبيرة،‭ ‬مهددة‭ ‬بالخروج‭ ‬من‭ ‬السوق‭ ‬الذي‭ ‬عملت‭ ‬فيه‭ ‬لعقود‭ ‬من‭ ‬الزمن‭.‬

‭ ‬ولم‭ ‬يحظ‭ ‬هذا‭ ‬القطاع،‭ ‬أي‭ ‬الثقافة،‭ ‬بمختلف‭ ‬مجالاتها‭ ‬ومستوياتها،‭ ‬كما‭ ‬حظيت‭ ‬بعض‭ ‬القطاعات‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬على‭ ‬دعم‭ ‬مالي‭ ‬كبير‭ ‬فاقت‭ ‬في‭ ‬بعضها‭ ‬وتحديدا‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الصناعية‭ ‬الكبرى‭ ‬المئات‭ ‬من‭ ‬المليارات‭ ‬من‭ ‬الدولارات‭. ‬ولذلك،‭ ‬فإن‭ ‬مؤسساته‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬مهددة‭ ‬بالخروج‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يخرج‭ ‬منها‭ ‬الأضعف‭ ‬والأصغر‭.‬

وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬فقد‭ ‬استمرت‭ ‬بعض‭ ‬أنشطة‭ ‬المنظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬التوعوية‭ ‬والثقافية‭ ‬عن‭ ‬بعد،‭ ‬وهي‭ ‬أنشطة‭ ‬في‭ ‬معظمها‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الإنشطة‭ ‬التوعوية،‭ ‬إذ‭ ‬ساعدت‭ ‬الجائحة‭ ‬على‭ ‬الإكثار‭ ‬من‭ ‬أنشطتها‭ ‬الافتراضية‭ ‬التي‭ ‬افتقدت‭ ‬“لحميمية”‭ ‬اللقاءات‭ ‬الثقافية‭ ‬الواقعية‭. ‬إذ‭ ‬أفقد‭ ‬فعل‭ ‬التباعد‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬رغم‭ ‬أهميته،‭ ‬عنصرا‭ ‬أساسيا‭ ‬ومهما‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللقاءات‭ ‬والأنشطة‭. ‬فالسيولة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬عليها‭ ‬الحياة‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬مناحيها‭ ‬المختلفة‭ ‬وفي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المجتمعات‭ ‬تشكل‭ ‬أحد‭ ‬أوجه‭ ‬الثقافة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الجديدة‭ ‬العابرة‭ ‬للحدود‭ ‬والتي‭ ‬بفعل‭ ‬الجائحة‭ ‬قد‭ ‬جُففت‭ ‬مياه‭ ‬أنهارها‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬شلت‭.‬    

أما‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الثقافة‭ ‬الشعبية،‭ ‬فإن‭ ‬الكثير‭ ‬مما‭ ‬قد‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬الممارسات‭ ‬الفولوكلورية‭ ‬الشعبية،‭ ‬الاجتماعية‭ ‬منها‭ ‬والدينية‭  ‬والتي‭ ‬اعتاد‭ ‬الناس‭ ‬ممارستها‭ ‬جماعيا،‭ ‬باتت‭ ‬مجمدة‭ ‬أو‭ ‬تم‭ ‬تقليصها،‭ ‬وباتت‭ ‬تتم‭ ‬وفق‭ ‬ضوابط‭ ‬احترازية‭ ‬مشددة،‭ ‬أفقدت‭ ‬هذه‭ ‬الأنشطة‭ ‬والطقوس‭ ‬من‭ ‬مضامينها‭ ‬الاجتماعية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الاجتماع‭ ‬البشري‭ ‬بل‭ ‬والتماهي‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬أدائهم‭ ‬الطقوسي‭ ‬لها‭. ‬فالممارسات‭ ‬الثقافية‭ ‬الشعبية‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬فعل‭ ‬التراص‭ ‬البشري‭ ‬والاندماج‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬والذي‭ ‬بانقطاعه‭ ‬ينقطع‭ ‬الفعل‭ ‬الثقافي‭ ‬ذاته‭ ‬أو‭ ‬يفقد‭ ‬وظيفته‭ ‬الاجتماعية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬التفاعل‭ ‬والاندماج‭.‬

وانتابت‭ ‬البعض‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المجتمعات‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬رغبة‭ ‬جامحة‭ ‬في‭ ‬كسر‭ ‬حالة‭ ‬المنع،‭ ‬التي‭ ‬بات‭ ‬يمثل‭ ‬إجراء‭ ‬ضروريا‭ ‬لمنع‭ ‬إنتشار‭ ‬المرض‭. ‬إذ‭ ‬تأتي‭ ‬هذه‭ ‬الممانعة‭ ‬بأشكال‭ ‬وأساليب‭ ‬وأدوات‭ ‬شتى،‭ ‬تارة‭ ‬باسم‭ ‬الدين‭ ‬أو‭ ‬الحريات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أو‭ ‬باسم‭ ‬العادات‭ ‬والأعراف‭ ‬المحلية‭ ‬أو‭ ‬الحاجة‭ ‬الاقتصادية‭. ‬والتي‭ ‬أصبح‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬السلطات‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬مواجهته‭. ‬فهي‭ ‬ممانعة‭ ‬ترفع‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المجتمعات‭ ‬الفردية‭ ‬تحت‭ ‬يافطة‭ ‬الحريات‭ ‬الفردية‭. ‬وهي‭ ‬ممانعة‭ ‬تمثلت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المظاهرات‭ ‬التي‭ ‬اجتاحت‭ ‬الغرب‭ ‬ضد‭ ‬فعل‭ ‬التباعد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والحجر،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬رفض‭ ‬لأخذ‭ ‬حصن‭ ‬التحصين‭ ‬تحت‭ ‬مبررات‭ ‬بعضها‭ ‬يبدو‭ ‬منطقيا‭ ‬في‭ ‬عرفهم‭ ‬وبعضها‭ ‬وفق‭ ‬تفسيرات‭ ‬خرافية‭ ‬أو‭ ‬وفق‭ ‬تفسير‭ ‬نظرية‭ ‬المؤامرة‭.‬

وخلاصة‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬مضمونها‭ ‬العام‭ ‬تمثل‭ ‬القطاع‭ ‬الأكثر‭ ‬تضررا‭ ‬من‭ ‬الجائحة‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬القطاعات‭ ‬المنسية‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬اهتمام‭ ‬أو‭ ‬دعم‭ ‬رسمي‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الجائحة‭. ‬وإن‭ ‬محاولات‭ ‬البعض‭ ‬ابتداع‭ ‬طرق‭ ‬وأدوات‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬قد‭ ‬أعانت‭ ‬بعض‭ ‬الشيء‭ ‬في‭ ‬استمرار‭ ‬بعض‭ ‬أنشطتها‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬تبقى‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬عاجزة‭ ‬بفضائها‭ ‬الافتراضي‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬أهداف‭ ‬الثقافة‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الاجتماع‭ ‬الإنساني‭. ‬وهو‭ ‬اجتماع‭ ‬قد‭ ‬تشكلت‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬ضوئه،‭ ‬ولا‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الأدوات‭ ‬الافتراضية‭ ‬الجديدة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تحقيقه‭. ‬فالثقافة‭ ‬في‭ ‬إطارها‭ ‬العام‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬نتاج‭ ‬لتلك‭ ‬التفاعلات‭ ‬والصراعات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬الإنسان‭ ‬محورها‭ ‬في‭ ‬تفاعله‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬وفي‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬عليها‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬المعاصرة‭.‬

 

نقلا‭ ‬عن‭ ‬مجلة‭ ‬البحرين‭ ‬الثقافية‭ ‬عدد‭ ‬105‭ ‬يوليه‭ ‬2021‭.‬