جرعة حياة (1)

| خالد الجريوي

ثمة‭ ‬أخلاق‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الفرسان‭ ‬النبلاء،‭ ‬أخلاق‭ ‬عالية‭ ‬يختص‭ ‬الله‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬يشاء‭ ‬من‭ ‬عباده،‭ ‬يعليهم‭ ‬بها‭ ‬درجات‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬والآخرة،‭ ‬ويكرم‭ ‬بها‭ ‬أصحابها‭ ‬والذين‭ ‬حولهم‭. ‬

من‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الأخلاق‭ ‬خُلق‭ ‬كريم‭ ‬أودعه‭ ‬الله‭ ‬الأبوين‭ ‬لتنهض‭ ‬الحياة‭ ‬بالأبناء،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬هذا‭ ‬الخُلق‭ ‬سينشأ‭ ‬الأبناء‭ ‬نشأة‭ ‬قاسية‭ ‬معقدة،‭ ‬ويؤول‭ ‬أمرهم‭ ‬إلى‭ ‬شتات‭. ‬

إنه‭ ‬خُلُق‭ ‬الرأفة،‭ ‬ذلك‭ ‬الخلق‭ ‬السماوي‭ ‬الذي‭ ‬يؤكد‭ ‬إنسانيتنا‭ ‬أو‭ ‬ينفيها،‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الوالدين‭ ‬فطرة،‭ ‬وفي‭ ‬سائر‭ ‬الناس‭ ‬فروسية‭ ‬نادرة‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬كرامهم‭.‬

الإنسان‭ ‬الرؤوف‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مَلَكًا‭ ‬كريمًا‭ ‬فهو‭ ‬شبيه‭ ‬به،‭ ‬فيه‭ ‬الإيثار‭ ‬والعفو‭ ‬والرحمة‭ ‬واللين‭ ‬والتغاضي‭ ‬وكل‭ ‬صفة‭ ‬باهرة‭ ‬آسرة‭. ‬قارن‭ ‬بين‭ ‬اثنين،‭ ‬قاسٍ‭ ‬ورؤوف‭ ‬واكتشف‭ ‬الفروق‭ ‬بنفسك،‭ ‬هي‭ ‬فروق‭ ‬جذرية‭ ‬فيهما‭ ‬وفي‭ ‬توفيقهما،‭ ‬وفي‭ ‬حب‭ ‬الناس‭ ‬لهما،‭ ‬وفي‭ ‬مآلاتهما‭. ‬

وإن‭ ‬كان‭ ‬الجَمال‭ ‬الظاهر‭ ‬يأسر‭ ‬العين‭ ‬فإن‭ ‬الرأفة‭ ‬تأسر‭ ‬الروح،‭ ‬ولا‭ ‬أبالغ‭ ‬لو‭ ‬قلت‭ ‬إن‭ ‬الرأفة‭ ‬جوهر‭ ‬الإنسان،‭ ‬وما‭ ‬تَمَكّن‭ ‬منها‭ ‬أحد‭ ‬إلا‭ ‬اقترب‭ ‬من‭ ‬الكمال،‭ ‬وما‭ ‬تجرّد‭ ‬منها‭ ‬مخلوق‭ ‬إلا‭ ‬اقترب‭ ‬إلى‭ ‬طباع‭ ‬البهائم‭.‬

تأسرني‭ ‬الرأفة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬الرأفة‭ ‬الممزوجة‭ ‬باللين،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تمسح‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الحزين‭ ‬فتسعده،‭ ‬وتضم‭ ‬الخائف‭ ‬الوجِلَ‭ ‬فتطمئنه،‭ ‬وتبلسم‭ ‬جراح‭ ‬المنكسرين‭.‬

الرأفة‭ ‬تلك‭ ‬الغيمة‭ ‬التي‭ ‬إن‭ ‬تشكّلَتْ‭ ‬ملأت‭ ‬المكان‭ ‬ظلا‭ ‬ونداوة‭ ‬وبهجة‭ ‬وحياة،‭ ‬حين‭ ‬أرى‭ ‬الناس‭ ‬يتمايزون‭ ‬فيما‭ ‬بينهم‭ ‬من‭ ‬طباعٍ‭ ‬يختصون‭ ‬بها‭ ‬يروق‭ ‬لي‭ ‬ذو‭ ‬الرأفة‭ ‬مهما‭ ‬قَلَّتْ‭ ‬مزاياه‭ ‬الأخرى‭. ‬

الرأفة‭ ‬هي‭ ‬بوصلة‭ ‬بقلبي،‭ ‬هي‭ ‬الشمال‭ ‬الذي‭ ‬تتجه‭ ‬إليه‭ ‬مشاعري،‭ ‬أشعر‭ ‬وكأنها‭ ‬جهةٌ‭ ‬سماوية‭ ‬مضيئةٌ‭ ‬بالنجوم،‭ ‬مليئةٌ‭ ‬بالغيوم،‭ ‬النسمات‭ ‬الباردة‭ ‬تحفها‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مكان‭. ‬الرأفة‭ ‬ليست‭ ‬ضعفًا‭ ‬كما‭ ‬يتصورها‭ ‬قساة‭ ‬القلوب،‭ ‬وصخور‭ ‬الدروب‭.. ‬لا‭ ‬لا‭.. ‬إنها‭ ‬نفحة‭ ‬سماوية‭ ‬تنعش‭ ‬الروح،‭ ‬وتبرئ‭ ‬الجروح،‭ ‬وتطول‭ ‬فيها‭ ‬الشروح،‭ ‬والمؤكد‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬خِيرة‭ ‬الناس‭. ‬“إيلاف”‭.‬