العفـو عند الاقتدار في الذكر الحكيم والأخبار

| تقي محمد البحارنة

‭*‬1‭ - ‬لا‭ ‬يحسب‭ ‬العفو‭ ‬إلا‭ ‬مع‭ ‬التمكـّن‭ ‬والمقدرة‭. ‬والعافي‭ ‬عن‭ ‬الناس‭ ‬إنسان‭ ‬يتمتع‭ ‬بضمير‭ ‬حي‭. ‬

وما‭ ‬أجمل‭ ‬الحياة‭ ‬حين‭ ‬يسود‭ ‬العفو‭ ‬والإحسان‭ ‬بين‭ ‬بني‭ ‬البشر‭.‬

وأرى‭ ‬لزامًا‭ ‬علي‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬العفو‭ ‬والمغفرة‭ ‬أن‭ ‬أبدأ‭ ‬بما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬الذكر‭ ‬الحكيم‭ ‬ثم‭ ‬سنة‭ ‬النبي‭ ‬الأكرم‭ ‬محمد‭ ‬عليه‭ ‬أفضل‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام‭.‬

فأقول‭: ‬إن‭ ‬الله‭ ‬جلّ‭ ‬جلاله‭ ‬يمتحن‭ ‬النفوس‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬البلاء‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬جزيل‭ ‬العطاء‭. ‬ويمتحن‭ ‬القلوب‭ ‬بين‭ ‬القسوة‭ ‬والتحـّجر‭ ‬وبين‭ ‬العفو‭ ‬والمغفرة‭. ‬وهو‭ ‬أهل‭ ‬التقوى‭ ‬وأهل‭ ‬المغفرة‭.‬

لقد‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬الذكر‭ ‬الحكيم‭ ‬والقران‭ ‬الكريم‭ ‬آيات‭ ‬بينات‭ ‬تحث‭ ‬على‭ ‬العفو‭ ‬والإحسان‭ ‬في‭ ‬مواضع‭ ‬كثيرة‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬لحصرها‭..‬وفي‭ ‬أواخر‭ ‬تلك‭ ‬الآيات‭ ‬وفي‭ ‬ثنايا‭ ‬بعضها‭ ‬الحض‭ ‬على‭ ‬العفو‭ ‬والمغفرة‭ ‬وثناء‭ ‬إلهي‭ ‬عن‭ ‬العافين‭ ‬عن‭ ‬الناس‭. ‬ومن‭ ‬ذلك‭:‬

‭...‬والكاظمين‭ ‬الغيظ‭ ‬والعافين‭ ‬عن‭ ‬الناس‭ ‬والله‭ ‬يحب‭ ‬المحسنين‭/...‬وليعفوا‭ ‬وليصفحوا‭ ‬ألا‭ ‬تحبّون‭ ‬أن‭ ‬يغفر‭ ‬الله‭ ‬لكم‭ ‬والله‭ ‬غفور‭ ‬رحيم‭ /...‬فاصفح‭ ‬الصفح‭ ‬الجميل‭/...‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬غضبوا‭ ‬هم‭ ‬يغفرون‭. /...‬وأن‭ ‬تعفوا‭ ‬وتصفحوا‭ ‬وتغفروا‭ ‬فإن‭ ‬الله‭ ‬غفور‭ ‬رحيم‭...‬إلخ‭. ‬

2-‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬نبي‭ ‬الإسلام‭ ‬محمد‭ ‬عليه‭ ‬أفضل‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام،‭ ‬فقد‭ ‬كثرت‭ ‬الشواهد‭ ‬على‭ ‬عفوه‭ ‬وكرمه‭ ‬وتفضّله‭. ‬نكتفي‭ ‬بقدر‭ ‬يسير‭ ‬منها‭:‬

‭* ‬عفا‭ ‬الرسول‭ ‬الأعظم‭ ‬عمن‭ ‬حاربه‭ ‬وتآمر‭ ‬على‭ ‬قتله‭ ‬من‭ ‬قريش‭ ‬وسائر‭ ‬القبائل‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬

الإسلام‭.‬

‭* ‬عفا‭ ‬عن‭ ‬مولى‭ ‬ال‭ ‬سفيان‭ (‬حبشي‭) ‬الذي‭ ‬قتل‭ ‬حمزة‭ ‬عمّ‭ ‬النبي‭. ‬وعن‭ ‬هند‭ ‬بنت‭ ‬عتبة‭ ‬زوجة‭ ‬أبي‭ ‬سفيان‭ ‬التي‭ ‬لاكت‭ ‬بين‭ ‬أسنانها‭ ‬كبد‭ ‬حمزة،‭ ‬حين‭ ‬أسلما‭.‬

‭* ‬عفا‭ ‬عن‭ ‬مشركي‭ ‬قريش‭ ‬في‭ ‬حصار‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة‭ ‬حيت‭ ‬نصره‭ ‬الله‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬قوة

واقتدار‭ ‬قائلا‭: ‬اذهبوا‭ ‬فأنتم‭ ‬الطلقاء‭.‬

والمسلمون‭ ‬اليوم‭ ‬يعرفون‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬والسنة‭ ‬وفي‭ ‬عصر‭ ‬التنوير‭ ‬والتسامح‭.. ‬ويستمعون‭ ‬من‭ ‬منابر‭ ‬الخطباء‭ ‬المؤمنين‭ ‬ما‭ ‬يحث‭ ‬على‭ ‬العفو‭ ‬والرحمة‭ ‬والتسامح‭, ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬ذلك

لا‭ ‬تطفأ‭ ‬نار‭ ‬للحروب‭ ‬بين‭ ‬المسلمين‭ ‬أنفسهم‭ ‬منشأها‭ ‬البغض‭ ‬والكراهية‭ ‬والتعصب‭ ‬والتكفير

وطلب‭ ‬الدنيا‭.. ‬وهم‭ ‬يتلون‭ ‬الكتاب‭ - ‬بينما‭ ‬شعب‭ ‬فلسطين‭ ‬يستصرخ‭ ‬ويستغيث،‭ ‬ألا‭ ‬ساء‭ ‬ما‭ ‬يفعلون‭.‬

3-‭ ‬وفي‭ ‬إيفاء‭ ‬موضوع‭ ‬العفو‭ ‬والرحمة‭ ‬مما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬أخبار‭ ‬التاريخ‭ ‬لدينا‭ ‬أمثلة‭ ‬للحّض‭ ‬عليها

بشكل‭ ‬مختصر‭:‬

‭* ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يفتخر‭ ‬به‭ ‬عرب‭ ‬الجاهلية‭ ‬هو‭ ‬العفو‭ ‬عند‭ ‬المقدرة‭ ‬وورد‭ ‬في‭ ‬شعرهم‭ ‬وأقوالهم

في‭ ‬ذلك‭ ‬الكثير‭. ‬وكان‭ ‬الأحنف‭ ‬ابن‭ ‬قيس‭ ‬التميمي‭ ‬مضرب‭ ‬المثل‭ ‬في‭ ‬الحلم‭ ‬والعفو‭ ‬والتسامح‭.‬

وفي‭ ‬سير‭ ‬الصحابة‭ ‬وأهل‭ ‬بيت‭ ‬النبوة‭ ‬والمؤمنين‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الصحابة‭ ‬ومن‭ ‬جاء‭ ‬بعدهم‭ ‬نماذج‭ ‬من‭ ‬العفو‭ ‬والإحسان‭..‬وردد‭ ‬الشعراء‭ ‬يتفاخرون‭ (‬ملكنا‭ ‬فكان‭ ‬العفو‭ ‬منا‭ ‬سجـّية‭..‬الخ‭)‬

‭* ‬وللشاعر‭ ‬أبو‭ ‬الطيب‭ ‬المتنبي‭ -‬الذي‭ ‬اعتبره‭ ‬الأدباء‭ ‬المعاصرون‭ ‬شاعر‭ ‬القومية‭ ‬العربية‭-‬

قصة‭ ‬ومناسبة‭:‬

تمـّردت‭ ‬بعض‭ ‬قبائل‭ ‬عرب‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬الحمداني‭ ‬وعاثوا‭ ‬فسادا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬القرى‭ ‬التابعة‭ ‬لسيف‭ ‬الدولة‭ ‬فاستشاط‭ ‬غضبا‭ ‬فغزاهم‭ ‬بجيشه‭ ‬وأثخن‭ ‬فيهم‭ ‬قتلا‭ ‬وتشريد‭. ‬فأنشده‭ ‬المتني‭ ‬مادحا‭ ‬وطالبا‭ ‬منه‭ ‬العفو‭ ‬والرحمة‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬تحنان‭ ‬المتنبي‭ ‬على‭ ‬عرب‭ ‬البادبة‭ ‬ومما

قاله‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬مطلعها‭:‬

طوال‭ ‬قنا‭ ‬تطاعنها‭ ‬قصـار‭ * ‬وقطرك‭ ‬في‭ ‬ندى‭ ‬ووغى‭ ‬بحـار

وفيها‭:‬

وفيك‭ ‬إذا‭ ‬جنى‭ ‬الجاني‭ ‬أنــاة‭ * ‬تظـّن‭ ‬كرامة‭ ‬وهي‭ ‬احتقار

إذا‭ ‬لم‭ ‬يرع‭ ‬سـّيـدهم‭ ‬عليهم‭ * ‬فمن‭ ‬يرعـى‭ ‬عليهم‭ ‬أو‭ ‬يغار

لعــّل‭ ‬بنـيهم‭ ‬لبنيك‭ ‬جنـد‭ * ‬فأول‭ ‬قــرح‭ ‬الخـيل‭ ‬المهـــــار

وأنت‭ ‬أبـرّ‭ ‬من‭ ‬لو‭ ‬عـقّ‭ ‬أفنـى‭ * ‬وأعفى‭ ‬من‭ ‬عقوبته‭ ‬النـّفار

وأقـدر‭ ‬من‭ ‬يهـّيجه‭ ‬انتصــار‭ * ‬وأحلــم‭ ‬من‭ ‬يحلـّمه‭ ‬اقـتدار‭.‬

والمتنبي‭ ‬هو‭ ‬القائل‭:‬

وما‭ ‬قتل‭ ‬الأحرار‭ ‬كالعفـو‭ ‬عنـهم‭ *‬ومن‭ ‬لك‭ ‬بالـحـّر‭ ‬الذي‭ ‬يحفظ‭ ‬اليدا

‭* ‬ويقول‭ ‬صفي‭ ‬الدين‭ ‬الحلي‭ ‬في‭ ‬العفو‭:‬

العفو‭ ‬منك‭ ‬من‭ ‬اعـتذاري‭ ‬أقرب‭ * ‬والصفح‭ ‬عن‭ ‬زللي‭ ‬بحلمك‭ ‬أقرب

يا‭ ‬من‭ ‬نـمـتّ‭ ‬إلى‭ ‬عـلاه‭ ‬بأنـنا‭ * ‬فــي‭ ‬طـيّ‭ ‬نعمــة‭ ‬ملكــه‭ ‬نــتقـّلـــب‭ **‬

وختاما‭ ‬لهذ‭ ‬الحديث‭ ‬فإن‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬جلالة‭ ‬ملك‭ ‬البحرين‭ ‬المعظم‭ ‬الشيخ‭ ‬حمد‭ ‬بن‭ ‬عيسى‭ ‬ال‭ ‬خليفة

حفظه‭ ‬الله‭ ‬ورعاه‭ ‬مبادرات‭ ‬سابقة‭ ‬ولاحقة‭ ‬في‭ ‬العفو‭ ‬والتسامح‭ ‬صفـّق‭ ‬لها‭ ‬العالم‭ ‬استحسانا‭ ‬وتقديرا‭ ‬ضمن‭ ‬مشروع‭ ‬إصلاحي‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬عهده‭ ‬الجديد،‭ ‬اطمأنت‭ ‬به‭ ‬النفوس‭ ‬وقـّرت‭ ‬به‭ ‬العيون‭ ‬وقلت‭ ‬في‭ ‬حينه‭ ‬قصيدة‭ ‬مرفوعة‭ ‬لجلالته‭ ‬منها‭ ‬هذا‭ ‬البيت

سجــّية‭ ‬شيمـة‭ ‬الأحرار‭ ‬فيك‭ ‬إذا‭ * ‬تمـّلكوا‭..‬سكن‭ ‬التكدير‭ ‬والغضب‭.‬

وقلت‭ ‬مخاطبا‭ ‬جلالته‭:‬

قد‭ ‬وضعت‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬الـشعب‭ * ‬فنعم‭ ‬الأساس‭ ‬والبنـيان

وأدرت‭ ‬الـسّفين‭ ‬للشاطئ‭ ‬الخصب‭ * ‬فـنعم‭ ‬السّفـيــن‭ ‬والربـّـــان

يا‭ ‬ملـيكا‭ ‬ألقـى‭ ‬الـّرهان‭ ‬على‭ ‬الشعب‭ * ‬هنيـئا‭ ‬فـقد‭ ‬أتاك‭ ‬الـّرهان

‭*‬

وما‭ ‬زال‭ ‬جلالته‭ ‬يتفضل‭ ‬ويعفو‭ ‬ويتأمـّل‭ ‬مراعاة‭ ‬للظروف‭ ‬عسى‭ ‬أن‭ ‬ينقشع‭ ‬الغمام‭ ‬عن‭ ‬صبح

منير‭ ‬يتسع‭ ‬لمسيرة‭ ‬إصلاح‭ ‬مستجدّة‭ ‬بإذن‭ ‬الله‭ ‬ومشيئته‭.‬

‭(‬أنّ‭ ‬التجّـدد‭ ‬في‭ ‬الإصـلاح‭ ‬مـأثرة‭ * ‬كالماء‭ ‬من‭ ‬نبعه‭ ‬ينأى‭..‬ويقـتـرب‭)‬

والله‭ ‬وليّ‭ ‬التوفيق‭ ‬وبه‭ ‬نستعين‭.‬