سوالف

يا ليتني قدمت لحياتي

| أسامة الماجد

لقد‭ ‬أعطتنا‭ ‬الفترة‭ ‬القليلة‭ ‬الماضية‭ (‬شهري‭ ‬مايو‭ ‬ويونيو‭) ‬مزيجا‭ ‬لغويا‭ ‬سحريا‭ ‬من‭ ‬الحزن،‭ ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نفهمه‭ ‬بطريقة‭ ‬جديدة،‭ ‬فقد‭ ‬رأينا‭ ‬الأصحاب‭ ‬والأحبة‭ ‬يقفون‭ ‬في‭ ‬طابور‭ ‬الموت‭ ‬ويدخلون‭ ‬عليه‭ ‬بلا‭ ‬استئذان،‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬توفي‭ ‬بفيروس‭ ‬كورونا‭ ‬اللعين‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬توفي‭ ‬بدونه،‭ ‬لكن‭ ‬الجميع‭ ‬كان‭ ‬يدنو‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬خطوة‭ ‬أخرى،‭ ‬وتحولت‭ ‬الأيام‭ ‬إلى‭ ‬لون‭ ‬واحد‭ ‬قاتم‭ ‬غارق‭ ‬في‭ ‬الرتابة،‭ ‬في‭ ‬الشهرين‭ ‬الماضيين‭ ‬وضع‭ ‬الكثير‭ ‬منا‭ ‬على‭ ‬صدره‭ ‬لافتة‭ ‬كتب‭ ‬عليها‭ ‬“ذاهب‭ ‬إلى‭ ‬المقبرة”‭ ‬لأدفن‭ ‬أخي‭ ‬أو‭ ‬أمي‭ ‬أو‭ ‬أبي‭ ‬أو‭ ‬أختي‭ ‬أو‭ ‬صديقي‭ ‬أو‭...‬،‭ ‬وتحولت‭ ‬ساحات‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬إلى‭ ‬بقعة‭ ‬سوداء‭ ‬مكتوب‭ ‬عليها‭ ‬بريشة‭ ‬بيضاء‭ ‬مهزوزة‭ ‬وبطعم‭ ‬الألم‭ ‬في‭ ‬الحلق‭ ‬أسماء‭ ‬من‭ ‬غادرونا‭ ‬بصمت‭ ‬وتركونا‭ ‬لنا‭ ‬التوجع‭.‬

يقول‭ ‬المفكر‭ ‬محمد‭ ‬خالد‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬“الحياة‭ ‬مليئة‭ ‬بالمضايقات،‭ ‬والهروب‭ ‬من‭ ‬مضايقاتها‭ ‬يساوي‭ ‬تماما‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬نفسها،‭ ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬ندري‭ ‬لماذا‭ ‬خلقها‭ ‬الله‭ ‬هكذا،‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬يخلقها‭ ‬خيرا‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬شر،‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬يجعلها‭ ‬سعادة‭ ‬خاصة‭ ‬لا‭ ‬شقاء‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬منغصات،‭ ‬أجل‭ ‬لا‭ ‬ندري‭ ‬لماذا،‭ ‬وجهلنا‭ ‬هذا‭ ‬بعض‭ ‬مضايقاتها،‭ ‬ومن‭ ‬يدري‭ ‬فلعله‭ ‬بعض‭ ‬مسراتها،‭ ‬إنها‭ ‬مزيج‭ ‬حكيم‭ ‬من‭ ‬المتناقضات،‭ ‬من‭ ‬اللذة،‭ ‬والألم،‭ ‬من‭ ‬التقوى‭ ‬والفجور،‭ ‬من‭ ‬الفوز‭ ‬والإخفاق،‭ ‬من‭ ‬السعادة‭ ‬والتعاسة،‭ ‬ونحن‭ ‬نصفها‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الوضع،‭ ‬بأنها‭ ‬بضاعة‭ ‬مزجاة‭ ‬ولكنها‭ ‬ترفض‭ ‬هذا‭ ‬الوصف‭ ‬وتعلن‭ ‬أنها‭ ‬قوانين‭ ‬محكمة،‭ ‬لا‭ ‬تجزعوا‭ ‬من‭ ‬شر‭ ‬الحياة‭ ‬وضرائها،‭ ‬ولا‭ ‬تجعلوا‭ ‬من‭ ‬أنفسكم‭ ‬وتصرفاتكم‭ ‬مجالا‭ ‬حيويا‭ ‬تنمو‭ ‬فيه‭ ‬تلك‭ ‬الشرور‭ ‬وتتعاظم”‭.‬

هكذا‭ ‬هي‭ ‬الحياة‭ ‬ومن‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬نرحب‭ ‬بالحزن‭ ‬وفقد‭ ‬الأحبة‭ ‬ونستقبله‭ ‬استقبالا‭ ‬رائعا‭ ‬دون‭ ‬اعتراض،‭ ‬فمثلما‭ ‬يدخل‭ ‬الفرح‭ ‬كل‭ ‬القلوب‭ ‬يدخل‭ ‬أيضا‭ ‬الحزن،‭ ‬والمقابر‭ ‬التي‭ ‬زرناها‭ ‬جميعا‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬نافذة‭ ‬مطلة‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬الحقيقي‭ ‬الآخر،‭ ‬وقال‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬محكم‭ ‬كتابه‭ ‬“يا‭ ‬ليتني‭ ‬قدمت‭ ‬لحياتي”‭ ‬ولم‭ ‬يقل‭ ‬“في‭ ‬حياتي”‭ ‬لأن‭ ‬الحياة‭ ‬الحقيقية‭ ‬هي‭ ‬حياة‭ ‬الآخرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬موت‭ ‬فيها‭.‬