قهوة الصباح

قصة النور والنار... نور الأمل من نار الألم (2)

| سيد ضياء الموسوي

منذ‭ ‬كنت‭ ‬صغيرًا،‭ ‬وأنا‭ ‬أقدّس‭ ‬الجمال‭ ‬بكل‭ ‬صوره،‭ ‬كتبا‭ ‬وأناقة‭ ‬ودراسة‭ ‬ورياضة‭ ‬وموسيقى‭. ‬كنت‭ ‬أستمتع‭ ‬بالموسيقى،‭ ‬وكنت‭ ‬أذهب‭ ‬المنامة‭ ‬لاصطياد‭ ‬آخر‭ ‬صيحات‭ ‬الموضة‭. ‬حتى‭ ‬انبرى‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬أناس‭ ‬متوترون‭ ‬قالوا‭ ‬لي‭: ‬إن‭ ‬الموسيقى‭ ‬حرام‭ ‬وأدواتها‭ ‬بوق‭ ‬من‭ ‬أبواق‭ ‬الشيطان‭. ‬كان‭ ‬حلمي‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬البيانو‭. ‬

كنت‭ ‬أذهب‭ ‬لمكتبة‭ ‬في‭ ‬مدينتي‭ ‬الطيبة،‭ ‬وأرى‭ ‬لعب‭ ‬البيانو‭ ‬الصغيرة‭ ‬وأحاول‭ ‬العزف‭ ‬بيدي‭ ‬بصورة‭ ‬عشوائية‭. ‬لا‭ ‬أعلم‭ ‬منذ‭ ‬كنت‭ ‬صغيرا‭ ‬أشعر‭ ‬أن‭ ‬الموسيقى‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬جمال‭ ‬الحياة‭. ‬كنت‭ ‬أرسم‭ ‬كاريكاتير،‭ ‬وكنت‭ ‬أرسم‭ ‬لوحات‭ ‬بالألوان،‭ ‬وشاركت‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬ببلاد‭ ‬القديم‭ ‬بلوحة‭ ‬عن‭ ‬القدس‭. ‬

ولكون‭ ‬الرياضة‭ ‬محل‭ ‬اهتمامي،‭ ‬عشقت‭ ‬كرة‭ ‬الطاولة،‭ ‬والتحقت‭ ‬بالنادي‭ ‬لسنين‭. ‬حتى‭ ‬كبرنا‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬غيب‭ ‬هذه‭ ‬الفنون‭ ‬بحجة‭ ‬أنها‭ ‬توافه‭ ‬والإسلام‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬القضايا‭ ‬المصيرية‭. ‬أدخلوا‭ ‬في‭ ‬عقولنا‭ ‬كشباب‭ ‬أن‭ ‬قيمة‭ ‬المرء‭ ‬بعمله‭ ‬وجزء‭ ‬من‭ ‬تقييم‭ ‬الشخص‭ ‬هو‭ ‬لحيته‭. ‬وكانوا‭ ‬يقولون‭: ‬إن‭ ‬حلق‭ ‬اللحية‭ ‬حرام‭ ‬حتى‭ ‬كبرت،‭ ‬وذهبت‭ ‬للدراسة‭ ‬الحوزوية،‭ ‬فاكتشفت‭ ‬أن‭ ‬حرمة‭ ‬حلق‭ ‬اللحية‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬غير‭ ‬معتمدة‭ ‬وضعيفة،‭ ‬لذلك‭ ‬السيد‭ ‬الخوئي‭ ‬لا‭ ‬يحرم‭ ‬حلق‭ ‬العارضين،‭ ‬وعدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬فقهاء‭ ‬الفقه‭. ‬مرت‭ ‬أعوام،‭ ‬طالما‭ ‬فُسَّق‭ ‬بشر‭ ‬لأجل‭ ‬لحية‭ ‬أو‭ ‬سماع‭ ‬موسيقى‭ ‬أو‭ ‬ثوب‭ ‬أنيق‭ ‬أو‭ ‬لعب‭ ‬ورق‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬أو‭ ‬شطرنج‭... ‬إلخ‭.‬

سافرت‭ ‬إلى‭ ‬ايران،‭ ‬وكنت‭ ‬أقفز‭ ‬بين‭ ‬حقول‭ ‬من‭ ‬الألغام‭ ‬الفقهية‭ ‬غير‭ ‬العملية‭ ‬ولا‭ ‬المدعومة‭ ‬بالأدلة‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬أي‭ ‬حكومة‭ ‬غير‭ ‬دينية‭ ‬حكومة‭ ‬غير‭ ‬شرعية،‭ ‬ثم‭ ‬تطورت‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬حكومة‭ ‬غير‭ ‬حكومة‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه‭ ‬فيها‭ ‬نظر‭. ‬كان‭ ‬الإعلام‭ ‬الإيراني‭ ‬بنظريته،‭ ‬يتدخل‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬تفكيك‭ ‬وإعادة‭ ‬تركيب‭ ‬الفقه‭ ‬المتوارث‭ ‬لمئات‭ ‬السنين،‭ ‬ليكون‭ ‬داعما‭ ‬لنظريته،‭ ‬وكان‭ ‬أي‭ ‬مرجع‭ ‬أو‭ ‬فقيه‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه‭ ‬المطلقة‭ ‬كحاكم‭ ‬إما‭ ‬يتم‭ ‬إنذاره‭ ‬أو‭ ‬يلتزم‭ ‬الصمت‭ ‬أو‭ ‬يختفي‭ . ‬وكلها‭ ‬محاولات‭ ‬لغلق‭ ‬ثقل‭ ‬مدرسة‭ ‬الفقهاء‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تدعو‭ ‬للسلام‭ ‬وعدم‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬مواجهات‭ ‬مع‭ ‬الدول‭ ‬كمدرسة‭ ‬الخوئي‭ ‬والحكيم‭ ‬التي‭ ‬توارثتها‭ ‬أجيال،‭ ‬ونقذت‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الأجيال‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬الصراعات‭ ‬السياسية‭. ‬

كان‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬مدرسة‭ ‬الحكيم‭ ‬والخوئي‭ ‬يعيشون‭ ‬أفضل‭ ‬علاقة‭ ‬مع‭ ‬دولهم‭ ‬في‭ ‬أمن‭ ‬واستقرار‭ ‬ووسطيين‭ ‬وأكثر‭ ‬أبنائهم‭ ‬خريجو‭ ‬جامعات‭ ‬أوروبية‭ ‬ويمارسون‭ ‬ثقافة‭ ‬الحياة،‭ ‬ومنشغلون‭ ‬في‭ ‬التجارة‭ ‬والاقتصاد‭ ‬وعلى‭ ‬علاقة‭ ‬بكبار‭ ‬العوائل‭ ‬مع‭ ‬دولهم‭ ‬حتى‭ ‬بدأ‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يتغير‭ ‬بانتصار‭ ‬الثورة‭ ‬الإيرانية‭ ‬1979‭. ‬كان‭ ‬انقلابا‭ ‬على‭ ‬المدرسة‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬للسيد‭ ‬الخوئي‭ ‬والحكيم‭ ‬ومدارس‭ ‬الفقهاء‭ ‬التي‭ ‬توارثها‭ ‬الناس‭ ‬لمئات‭ ‬السنين‭. ‬هنا‭ ‬كان‭ ‬التأثير‭ ‬كبيرا،‭ ‬واستبدلت‭ ‬المفاهيم‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬فتحولت‭ ‬من‭ ‬تقديس‭ ‬الشهادة‭ ‬الجامعية‭ ‬إلى‭ ‬تقديس‭ ‬شهادة‭ ‬الموت،‭ ‬وانتقل‭ ‬شباب‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الفنون‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬السجون،‭ ‬وتذوق‭ ‬موسيقى‭ ‬موزارت‭ ‬والتلذذ‭ ‬بجميل‭ ‬الصوت‭ ‬إلى‭ ‬التلذذ‭ ‬بالتابوت‭. ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬تحول‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬لم‭ ‬تؤثر‭ ‬عليه‭ ‬الداعية‭. ‬فكان‭ ‬كل‭ ‬منطقة‭ ‬جميلة‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬كومة‭ ‬خراب‭ ‬ونعوش‭ ‬وسجون‭ ‬وغربة‭. ‬

أصبح‭ ‬الموت‭ ‬يقتحم‭ ‬فكر‭ ‬الحياة،‭ ‬وبات‭ ‬جيل‭ ‬الشباب‭ ‬المنشغل‭ ‬بالسياحة‭ ‬والدراسة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬ولبنان‭ (‬سويسرا‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ) ‬وعراق‭ ‬الرافدين‭... ‬إلخ،‭ ‬أصبح‭ ‬هناك‭ ‬جيل‭ ‬جديد‭ ‬مرهون‭ ‬للعذاب‭ ‬وثقافة‭ ‬الموت،‭ ‬يكثر‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬ثقافة‭ ‬الحياة،‭ ‬وسماع‭ ‬الموسيقى‭ ‬والتلذذ‭ ‬بالرياضة‭ ‬والثقافة‭ ‬المتنوعة‭ ‬التي‭ ‬هجرت‭ ‬وانتقلت‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬ثقافة‭ ‬الأحزاب‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجمل‭ ‬العذاب‭ ‬والموت‭ ‬بحجة‭ ‬الطريق‭ ‬الأسهل‭ ‬والأفضل‭ ‬للجنة‭. ‬

هناك‭ ‬في‭ ‬إيران،‭ ‬اكتشفت‭ ‬بؤس‭ ‬النظرية‭ ‬المركبة‭ ‬على‭ ‬أعمدة‭ ‬هزيلة‭ ‬غير‭ ‬متناسقة‭ ‬أو‭ ‬منسقة‭ ‬أو‭ ‬منسجمة‭. ‬

سافرت‭ ‬أوروبا،‭ ‬وسقطت‭ ‬بقية‭ ‬هذه‭ ‬الحجارة،‭ ‬وكلما‭ ‬تعمقت‭ ‬في‭ ‬الحضارات،‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬قناعة‭ ‬أن‭ ‬الدين‭ ‬وأهل‭ ‬البيت‭ ‬“ع”‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬السلام‭ ‬والمحبة‭ ‬وحب‭ ‬الحياة‭ ‬والأوطان‭ ‬وإنقاذ‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬إنقاذه‭ ‬من‭ ‬الأجيال‭ ‬الضائعة‭ ‬بسبب‭ ‬الشحن‭ ‬والغسيل‭ ‬الفكري‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقود‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬مقبرة‭ ‬أو‭ ‬سجن‭ ‬أو‭ ‬منفى‭.‬

اليوم،‭ ‬نحن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬انقلاب‭ ‬فكري‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬والرجوع‭ ‬إلى‭ ‬الفكر‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬عليه‭ ‬الأجداد‭ ‬من‭ ‬علاقة‭ ‬وطيدة‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭ ‬والوطن‭ ‬وثقافة‭ ‬التنوير‭ ‬مع‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بحب‭ ‬وقيم‭ ‬أهل‭ ‬البيت‭ ‬“ع”‭ ‬والصحابة‭ ‬“رض”‭ ‬والانتقال‭ ‬إلى‭ ‬فكر‭ ‬التصالح‭ ‬والمصالحة‭ ‬الثقافية‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬ودعم‭ ‬دولنا‭ ‬وأوطاننا‭ ‬وإنقاذ‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬إنقاذه‭ ‬من‭ ‬الأبناء‭ ‬لينعموا‭ ‬بحياة‭ ‬كريمة‭ ‬وطنية‭ ‬وبالفوز‭ ‬بالآخرة‭ ‬وفق‭ ‬الفكر‭ ‬الجميل‭ ‬المسالم‭ ‬الذي‭ ‬عشناه‭ ‬وتربينا‭ ‬عليه‭ ‬سنينا‭ ‬وذلك‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬بالمنطق‭ ‬الوسطي‭ ‬والوطني‭ ‬والإنساني‭ ‬بترسيخ‭ ‬حب‭ ‬الله،‭ ‬إله‭ ‬الحب‭ ‬والجمال‭ ‬والإنسان‭.‬