قهوة الصباح

قصة النور والنار... نور الأمل من نار الألم

| سيد ضياء الموسوي

منذ‭ ‬كنت‭ ‬صغيرا،‭ ‬وأنا‭ ‬ألاحق‭ ‬ببندقيتي‭ ‬عصافير‭ ‬الكتب‭ ‬والمجلات‭. ‬كنت‭ ‬أنتظر‭ ‬لساعات‭ ‬وصول‭ (‬مجلة‭ ‬ماجد‭) ‬الإماراتية‭. ‬كبرت،‭ ‬وكبر‭ ‬معي‭ ‬شغف‭ ‬القراءة‭ ‬حتى‭ ‬عقدت‭ ‬علاقة‭ ‬صداقة‭ ‬مع‭ (‬مجلة‭ ‬العربي‭) ‬الكويتية‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أشتريها‭ ‬من‭ ‬مصروفي‭ ‬الخاص‭. ‬ولما‭ ‬أصبحت‭ ‬شابا،‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬يدي‭ ‬تسجيل‭ ‬صوتي‭ ‬لنزار‭ ‬قباني،‭ ‬وهو‭ ‬يلقي‭ ‬قصائده‭ ‬في‭ ‬ربوع‭ ‬البحرين،‭ ‬قائلا‭: ‬“أتذكر‭ ‬أني‭ ‬قبل‭ ‬عشر‭ ‬سنين،‭ ‬قلت‭ ‬إن‭ ‬بحرا‭ ‬من‭ ‬العشق‭ ‬يغرقني،‭ ‬فكيف‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أواجه‭ ‬عشق‭ (‬البحرين‭)‬،‭ ‬فها‭ ‬أنا‭ ‬ذا‭ ‬قد‭ ‬جئت‭ ‬لأنام‭ ‬على‭ ‬ذراع‭ ‬المنامة”‭. ‬سحرتني‭ ‬مفردات‭ ‬نزار‭ ‬المطرزة‭ ‬بإكسسوارات‭ ‬المعاني،‭ ‬وطراوة‭ ‬كلماته‭ ‬ممشوقة‭ ‬القد‭. ‬الكتب‭ ‬جلبت‭ ‬كتبا،‭ ‬والدواوين‭ ‬أنجبت‭ ‬دواوين،‭ ‬من‭ ‬شوقي‭ ‬والمتنبي‭ ‬والشابي‭ ‬ومظفر‭ ‬النواب‭ ‬والجواهري‭. ‬كنت‭ ‬في‭ ‬قبال‭ ‬شراء‭ ‬كل‭ ‬قطعة‭ ‬ثياب،‭ ‬أقتني‭ ‬كتابا‭.‬

وكنت‭ ‬مستمتعا،‭ ‬وأنا‭ ‬أطير‭ ‬كنورس‭ ‬بين‭ ‬مرافئ‭ ‬الثقافة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اكتشفت‭ ‬موهبتي‭ ‬في‭ ‬لعب‭ ‬تنس‭ ‬الطاولة،‭ ‬والتحقت‭ ‬بنادي‭ ‬مدينتي‭ ‬تدريبا‭ ‬في‭ ‬جو‭ ‬ديني‭ ‬معتدل،‭ ‬ثم‭ ‬ذهبت‭ ‬تدريبا‭ ‬إلى‭ ‬الصالة‭ ‬الرياضية‭ ‬في‭ ‬الجفير‭. ‬وحيث‭ ‬كانت‭ ‬السياسة،‭ ‬وتحديدا‭ ‬التيار‭ ‬الإسلاموي‭ ‬السياسي‭ ‬قد‭ ‬كشر‭ ‬بأنيابه‭ ‬هياجا‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الثمانينات،‭ ‬تحت‭ ‬شعار‭ (‬الإسلام‭ ‬هو‭ ‬الحل‭)‬،‭ ‬شعار‭ ‬فضفاض‭ ‬بلا‭ ‬مشروع‭ ‬تنموي،‭ ‬ولا‭ ‬إجابات‭ ‬واضحة‭ ‬لا‭ ‬سياسيا‭ ‬ولا‭ ‬اقتصاديا،‭ ‬هذا‭ ‬الشعار‭ ‬الدسم‭ ‬المتنقل‭ ‬بين‭ ‬مايكروفونات‭ ‬التيار‭ ‬الإسلامي‭ ‬من‭ ‬حركة‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬إلى‭ ‬حزب‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬غيرهما‭... ‬إلخ‭. ‬

كان‭ ‬الجو‭ ‬السياسي‭ ‬العام‭ ‬أن‭ ‬الخلاص‭ ‬الأخروي‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬إيران‭ ‬باعتبارها‭ (‬جنة‭ ‬الله‭ ‬الموعودة‭) ‬والدولة‭ (‬الممهدة‭ ‬للإمام‭ ‬المهدي‭) ‬كما‭ ‬تم‭ ‬ترويجه‭ ‬حينها،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الشعارات‭ ‬الجذابة‭ ‬للشباب‭. ‬حزمت‭ ‬حقائبي‭ ‬مسافرا‭ ‬لإيران‭ ‬بعد‭ ‬تأثير‭ ‬إعلامي‭ ‬بشخصيات‭ ‬مختلفة،‭ ‬كان‭ ‬البعض‭ ‬منها‭ ‬يراني‭ ‬مؤهلا‭ ‬للحوزة‭ ‬بسبب‭ ‬اهتماماتي‭ ‬الثقافية‭ ‬والأدبية‭. ‬درست‭ ‬هناك‭ ‬الفقه،‭ ‬وعلم‭ ‬الأصول،‭ ‬والنحو‭ ‬حتى‭ ‬وصلت‭ ‬لآخر‭ ‬مرحلة،‭ ‬مرحلة‭ (‬البحث‭ ‬الخارج‭)‬،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الاجتهاد‭. ‬كلما‭ ‬طال‭ ‬العمر،‭ ‬تكبر‭ ‬الأسئلة،‭ ‬وتضعف‭ ‬الإجابات‭.‬

أصبت‭ ‬بعد‭ ‬ثماني‭ ‬سنوات‭ ‬بصدمة‭ ‬معرفية‭ ‬وواقعية‭ ‬وسياسية،‭ ‬خصوصا‭ ‬وأنا‭ ‬أرى‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬امرأةً‭ ‬ترجم‭ ‬في‭ ‬حفرة‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬العامة‭ ‬في‭ ‬قم،‭ ‬قرب‭ ‬الجسر،‭ ‬غير‭ ‬أني‭ ‬اكتشفت‭ ‬كيف‭ ‬يتم‭ ‬برمجة‭ ‬الشباب‭ ‬حركيا،‭ ‬ومن‭ ‬كل‭ ‬أصقاع‭ ‬العالم‭ ‬بغسيل‭ ‬فكري‭ ‬لا‭ ‬يقود‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬سجن‭ ‬أو‭ ‬مقبرة‭ ‬أو‭ ‬منفى‭. ‬رغم‭ ‬تكدس‭ ‬الكتب‭ ‬الآيديولوجية،‭ ‬كانت‭ ‬تزاحمها‭ ‬كتب‭ ‬جبران‭ ‬والجابري‭ ‬وأركون‭ ‬وعلي‭ ‬حرب‭ ‬وسروش‭ ‬وقباني‭ ‬والمنفلوطي‭ ‬وسارتر‭ ‬ونيتشه‭ ‬وروسو‭. ‬فبين‭ ‬صدمات‭ ‬معرفية‭ ‬وأخرى‭ ‬سياسية،‭ ‬بدأت‭ ‬اكتشف‭ ‬حقائق‭ ‬كبيرة،‭ ‬وفي‭ ‬عمر‭ ‬26‭ ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬فكر‭ ‬أهل‭ ‬البيت‭ ‬“ع”‭ ‬يختلف‭ ‬عما‭ ‬يروج‭ ‬له‭ ‬سياسيا،‭ ‬خصوصا‭ ‬وأنا‭ ‬أرى‭ ‬ظلامة‭ ‬السيد‭ ‬محمد‭ ‬حسين‭ ‬فضل‭ ‬الله،‭ ‬وكيف‭ ‬كانت‭ ‬الحملة‭ ‬مستعرة‭ ‬ضده،‭ ‬وضد‭ ‬المرجع‭ ‬السيد‭ ‬الشيرازي‭ ‬الذي‭ ‬زرته‭ ‬في‭ ‬بيته،‭ ‬وكان‭ ‬تحت‭ ‬إقامة‭ ‬جبرية،‭ ‬وأنا‭ ‬شاب‭ ‬كنت‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬الضائعة،‭ ‬فراح‭ ‬يسألني‭ ‬أسئلة‭ ‬نحوية‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬مرح‭ ‬وخلق‭ ‬عظيم‭.‬

وجدته‭ ‬متواضعا‭ ‬وطيبا‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬له،‭ ‬فقد‭ ‬عاش‭ ‬غريبا‭ ‬ومات‭ ‬غريبا؛‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يمتلك‭ ‬رأيا‭ ‬مختلفا‭. ‬أسمع‭ ‬إعلام‭ ‬الإذاعة‭ ‬في‭ ‬طهران‭ ‬وأنا‭ ‬شاب،‭ ‬يقول‭ ‬يجب‭ ‬احترام‭ ‬مراجع‭ ‬الدين،‭ ‬وفي‭ ‬داخل‭ ‬قم‭ ‬أجد‭ ‬المرجع‭ ‬الشيرازي‭ ‬تحت‭ ‬الإقامة‭ ‬الجبرية‭ ‬والمرجع‭ ‬منتظري‭ ‬تكسر‭ ‬مكتبته‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المتظاهرين‭ ‬المجيشين،‭ ‬وأرى‭ ‬العرائض‭ ‬تتكاثر‭ ‬في‭ ‬تفسيق‭ ‬السيد‭ ‬فضل‭ ‬الله؛‭ ‬فقط‭ ‬لأنه‭ ‬مستقل،‭ ‬وهنا‭ ‬لحظت‭ ‬الشوزفرينيا‭ ‬والتناقضات‭. ‬ورأيت‭ ‬بأم‭ ‬العين‭ ‬كيف‭ ‬كان‭ ‬الانقلاب‭ ‬على‭ ‬المرجع‭ ‬منتظري،‭ ‬وتعبئة‭ ‬الجماهير‭ ‬ضده،‭ ‬وهو‭ ‬كان‭ ‬القائد‭ ‬الاحتياطي‭ ‬يوما‭ ‬ما‭. ‬وفي‭ ‬مراحل‭ ‬أخرى‭ ‬ضد‭ ‬المرجع‭ ‬محمد‭ ‬الصدر،‭ ‬والد‭ ‬مقتدى‭ ‬الصدر،‭ ‬وأخرى‭ ‬ضد‭ ‬خاتمي‭ ‬بحجة‭ ‬أنه‭ ‬منفتح‭ ‬فكريا،‭ ‬والهجمة‭ ‬التي‭ ‬قادها‭ ‬الأصوليون‭ ‬فترة‭ ‬الانتخابات‭ ‬الرئاسية‭ ‬ضده،‭ ‬وسروش،‭ ‬المفكر‭ ‬الذي‭ ‬أحببت‭ ‬قراءاته‭ ‬النقدية‭ ‬للتاريخ‭ ‬وتفكيك‭ ‬النصوص،‭ ‬ووجدت‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يكفره‭. ‬وأي‭ ‬شخص‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يبدي‭ ‬رأيه‭ ‬أو‭ ‬يستقل‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬رؤية‭ ‬تاريخية‭ ‬أو‭ ‬فلسفية،‭ ‬فضلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مختلفا‭ ‬في‭ ‬رؤيته‭ ‬لولاية‭ ‬الفقيه‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭ ‬أولا‭: ‬بتصفية‭ ‬سمعته‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬كما‭ ‬مورس‭ ‬مع‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬مهدي‭ ‬شمس‭ ‬الدين،‭ ‬وإسقاطه‭ ‬جماهيريا‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬الآن‭ ‬للسيد‭ ‬الحيدري‭. ‬شابا‭ ‬كنت‭ ‬وأنا‭ ‬ألمح‭ ‬الانقسام‭ ‬بين‭ ‬المجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬الإسلامي‭ ‬للحكيم،‭ ‬وحزب‭ ‬الدعوة‭ ‬والتراشق‭ ‬الواضح‭.‬

تزاحمت‭ ‬في‭ ‬عقلي‭ ‬أسئلة‭ ‬ديكارتية،‭ ‬أين‭ ‬هي‭ ‬ملائكية‭ ‬الاختلاف‭ ‬وحضارة‭ ‬حرية‭ ‬الرأي‭ ‬والرأي‭ ‬الآخر‭ ‬حول‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أراه،‭ ‬وأين‭ ‬هي‭ ‬الحرية‭ ‬التي‭ ‬تقال؟‭ ‬هنا‭ ‬عرفت‭ ‬أن‭ ‬المصالح‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬السياسة‭ ‬لا‭ ‬المبادئ‭. ‬سقطت‭ ‬تماثيل‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬عيني،‭ ‬والذي‭ ‬بقي‭ ‬هو‭ ‬جمال‭ ‬وقيم‭ ‬أهل‭ ‬البيت‭ ‬“ع”،‭ ‬خصوصا‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬الذي‭ ‬لازمت‭ ‬منهجه‭ ‬عبر‭ (‬نهج‭ ‬البلاغة‭) ‬قراءة‭ ‬وتنقيبا،‭ ‬حتى‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭. ‬الامام‭ ‬علي‭ ‬“ع”‭ ‬كان‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬حب‭ ‬الأوطان،‭ ‬والوسطية‭ ‬والاعتدال‭ ‬والإنسانية‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬مسلما‭ ‬أو‭ ‬مسيحيا‭. ‬

كانت‭ ‬تجربة‭ ‬مليئة‭ ‬بالأوجاع،‭ ‬لكنها‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬فهمي‭ ‬الدقيق‭ ‬لكل‭ ‬الحركات‭ ‬الإسلامية،‭ ‬ومعرفتي‭ ‬الحقيقية‭ ‬لكارثية‭ ‬مفهوم‭ (‬الدولة‭ ‬الدينية‭) ‬سنية‭ ‬أو‭ ‬شيعية‭ ‬أو‭ ‬مسيحية‭ ‬أو‭ ‬يهودية،‭ ‬التي‭ ‬بسبب‭ ‬أخطائها‭ ‬المنهجية‭ ‬وفلسفتها‭ ‬للحياة‭ ‬تفتقر‭ ‬للعلمية،‭ ‬ولا‭ ‬تقود‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬زج‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬نار‭ ‬جحيم‭ ‬السياسية‭. ‬الوعي‭ ‬المبكر‭ ‬قادني‭ ‬لفهم‭ ‬حقيقي‭ ‬إستراتيجي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬حب‭ ‬الوطن‭ ‬ودولة‭ ‬القانون،‭ ‬وفصل‭ ‬الدين‭ ‬عن‭ ‬إدارة‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭. ‬

كان‭ ‬تقلد‭ ‬جلالة‭ ‬الملك‭ ‬للحكم‭ ‬والتصويت‭ ‬على‭ ‬ميثاق‭ ‬العمل‭ ‬الوطني،‭ ‬الفرصة‭ ‬الذهبية‭ ‬وطوق‭ ‬النجاة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الفوضى‭ ‬الثقافية،‭ ‬والحركية‭ ‬والمنطق‭ ‬الخطأ‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬فكر‭ ‬أهل‭ ‬البيت‭ ‬“ع”‭. ‬ففكر‭ ‬أهل‭ ‬البيت‭ ‬لا‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬تحزب،‭ ‬أو‭ ‬استخدامه‭ ‬كورقة‭ ‬في‭ ‬سياسات‭ ‬الدول،‭ ‬ولا‭ ‬يجير‭ ‬ضد‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬أو‭ ‬تلك‭. ‬فكر‭ ‬أهل‭ ‬البيت‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬سياسات‭ ‬بشرية‭ ‬تتغير‭ ‬مع‭ ‬تغيرات‭ ‬المصالح‭ ‬القومية‭ ‬والآنية‭. ‬جاء‭ ‬يوم‭ ‬التصويت‭ ‬على‭ ‬الميثاق،‭ ‬حزمت‭ ‬أمتعتي‭ ‬ليلا‭ ‬للسفر‭ ‬الى‭ ‬سفارة‭ ‬البحرين‭ ‬في‭ ‬طهران،‭ ‬وفي‭ ‬الساعه‭ ‬السادسة‭ ‬صباحا‭ ‬هاتفني‭ ‬صديق‭ ‬قال‭ ‬لي‭: ‬سيد‭ ‬هل‭ ‬ستذهب‭ ‬لتصوت‭ ‬على‭ ‬الميثاق؟‭ ‬قلت‭: ‬نعم‭ ‬وبنعم‭ ‬أيضًا‭. ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬أسأل‭ ‬نفسي‭ ‬أسئلة‭ ‬نقدية‭: ‬الإمام‭ ‬الحسين‭ ‬كان‭ ‬يتحرك‭ ‬وفق‭ ‬ظروف‭ ‬تاريخية‭ ‬خاصة،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الشيخ‭ ‬مطهري‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ (‬الملحمة‭ ‬الحسينية‭)‬،‭ ‬وحتى‭ ‬كبار‭ ‬المراجع،‭ ‬فلماذا‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يتحدث‭ ‬للناس‭ ‬عن‭ ‬صلح‭ ‬الإمام‭ ‬الحسن،‭ ‬و‭ ‬موقف‭ ‬الإمام‭ ‬الرضا‭ ‬من‭ ‬الحُكم‭ ‬في‭ ‬عهده،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يحتكم‭ ‬للمصلحة‭ ‬العامة،‭ ‬وكان‭ ‬وليًا‭ ‬للعهد،‭ ‬ولماذا‭ ‬لا‭ ‬احد‭ ‬يتحدث‭ ‬بوضوح‭ ‬عن‭ ‬موقف‭ ‬الامام‭ ‬علي‭ (‬ع‭) ‬من‭ ‬الصحابة‭ (‬رض‭ )‬حيث‭ ‬كان‭ ‬مستشارا‭ ‬للخليفة‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ (‬رض‭ )‬،‭ ‬و‭ ‬هو‭ ‬انتقد‭ ‬بشدة،‭ ‬المتمردين‭ ‬على‭ ‬الخليفة‭ ‬الثالث‭ (‬رض‭) ‬ضد‭ ‬الفتنة‭ ‬القائمة‭. ‬وكلها‭ ‬أحداث‭ ‬يثبتها‭ ‬المؤرخون‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الطوائف‭.‬

لماذا‭ ‬يقتطع‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬سياقه‭. ‬وتكون‭ ‬النظرية‭ ‬المسيطرة‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬الشيعي‭ ‬هو‭ ‬ثقافة‭ ‬الشهادة،‭ ‬والتحدي‭ ‬والمواجهة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬اهل‭ ‬البيت‭ ‬مواقف‭ ‬كثيرة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬السلمي‭ ‬آنذاك،‭ ‬ورفض‭ ‬أي‭ ‬تمرد‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬نهج‭ ‬الامام‭ ‬الصادق‭. ‬هنا‭ ‬فهمت‭ ‬لماذا‭ ‬الأسس‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬عليها‭ ‬منهج‭ ‬المرجع‭ ‬الخوئي‭ ‬والمرجع‭ ‬الحكيم،‭ ‬بل‭ ‬99‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬المراجع‭ ‬الدينية‭ ‬تلتزم‭ ‬بنظرية‭ ‬السلم‭ ‬والتواصل‭ ‬مع‭ ‬نظام‭ ‬البلد‭ ‬الذي‭ ‬يعيشون‭ ‬فيه‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يدخلوا‭ ‬الوطن‭ ‬او‭ ‬الناس‭ ‬لدفع‭ ‬فواتير‭ ‬سياسية‭. ‬ودوري‭ ‬التاريخي‭ ‬الثقافي‭ ‬هو‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬ترسيخ‭ ‬نظرية‭ ‬الفقه‭ ‬المغيبة‭ ‬منذ‭ ‬1979‭ ‬من‭ ‬التعاون‭ ‬الوطني‭ ‬مع‭ ‬الدولة‭. ‬وأمتلك‭ ‬أدوات‭ ‬الفقه‭ ‬في‭ ‬التنظير‭ ‬لها‭. ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬أسئلة‭ ‬كانت‭ ‬تختمر‭ ‬في‭ ‬عقلي‭ ‬بصورة‭ ‬قلق‭ ‬معرفي،‭ ‬حتى‭ ‬رحت‭ ‬أبحث‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬فلسفة‭ ‬الغرب،‭ ‬وزرت‭ ‬الغرب،‭ ‬وترسخت‭ ‬القناعة‭ ‬أن‭ ‬خير‭ ‬فكر‭ ‬للدول‭ ‬والمجتمعات‭ ‬هو‭ ‬الوسطية‭ ‬والتواصل‭ ‬لخير‭ ‬الأوطان‭ ‬وقادتها‭. ‬نعم‭ ‬أهل‭ ‬البيت‭ ‬يدعوننا‭ ‬لحفظ‭ ‬الأوطان،‭ ‬وحفظ‭ ‬أبناء‭ ‬الوطن‭ ‬من‭ ‬الاحتراق‭.‬

رجعت‭ ‬إلى‭ ‬البحرين‭ ‬وقد‭ ‬حسمت‭ ‬كل‭ ‬أسئلتي‭ ‬بوضوح‭ ‬معرفي‭. ‬وشاء‭ ‬القدر‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬في‭ ‬وطن،‭ ‬ملكه‭ ‬خير‭ ‬الملوك‭ ‬حكمة‭ ‬وثقافة‭ ‬وخلقا‭ ‬وخُلقا‭ ‬وسعة‭ ‬صدر‭ ‬وطيبة‭ ‬قلب‭ ‬تتسع‭ ‬لكل‭ ‬العالم‭. ‬ومنذ‭ ‬رجوعي،‭ ‬وأنا‭ ‬أدافع‭ ‬عن‭ ‬المشروع‭ ‬الإصلاحي‭ ‬مواليا‭ ‬لجلالة‭ ‬الملك‭ ‬بكل‭ ‬وضوح‭ ‬وفخر‭ ‬واعتزاز،‭ ‬ومحبا‭ ‬للخير‭ ‬للناس‭ ‬بالترافع‭ ‬عن‭ ‬همومه‭ ‬بحرفية،‭ ‬مترافعا‭ ‬عن‭ ‬ملفات‭ ‬وطنية‭ ‬معيشية‭ ‬لخير‭ ‬الوطن‭ ‬والناس،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬أكره‭ ‬إلا‭ ‬الكراهية،‭ ‬داعما‭ ‬للمواقف‭ ‬الإنسانية،‭ ‬حاملا‭ ‬رسالة‭ ‬التنوير،‭ ‬أن‭ ‬أنور‭ ‬الناس‭ ‬والشباب‭ ‬بعدم‭ ‬السقوط‭ ‬ضحايا‭ ‬لغواية‭ ‬أي‭ ‬شعار‭ ‬أو‭ ‬حركة‭ ‬انفعالية،‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬محارق‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬السلم‭ ‬الأهلي‭ ‬والوطني‭. ‬ومنذ‭ ‬رجوعي‭ ‬أحمل‭ ‬كل‭ ‬الاعتزاز‭ ‬وفائض‭ ‬الشكر‭ ‬لملك،‭ ‬استبدل‭ ‬غربتنا‭ ‬المتشظية‭ ‬إلى‭ ‬لقاء‭ ‬وطن،‭ ‬و‭ ‬من‭ ‬التشرد‭ ‬على‭ ‬أرصفة‭ ‬الوجع‭ ‬إلى‭ ‬حياة‭ ‬آمنة‭ ‬في‭ ‬ربوع‭ ‬الأرض‭.‬

هدفي‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬أن‭ ‬أنقذ‭ ‬أي‭ ‬شاب‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يقع‭ ‬ضحية‭ ‬السياسة‭ ‬ويذهب‭ ‬عمره‭ ‬هباء،‭ ‬لذلك‭ ‬سابقى‭ ‬مروجا‭ ‬لنظريتي‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الوسطية‭ ‬ودعم‭ ‬الوطن‭ ‬والقيادة‭ ‬والناس‭ ‬كفلسفة‭ ‬فكرية‭ ‬بخطاب‭ ‬معتدل‭ ‬حضاري‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الاقناع‭ ‬العلمي،‭ ‬لذلك‭ ‬اقول‭: ‬إن‭ ‬الكرامة‭ ‬والعزة‭ ‬وحب‭ ‬أهل‭ ‬البيت‭ ‬تقتضي‭ ‬أن‭ ‬نقف‭ ‬مع‭ ‬القانون،‭ ‬وندخل‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬جديدة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬السلام‭ ‬وثقافة‭ ‬الحياة‭.‬