جسر الخير... أهلًا ومرحبًا

| د. عبدالله الحواج

قبل‭ ‬سنوات‭ ‬بعيدة‭ ‬وفي‭ ‬العام‭ ‬1986‭ ‬تحديدًا‭ ‬كتبت‭ ‬مقالًا‭ ‬مع‭ ‬افتتاح‭ ‬جسر‭ ‬الملك‭ ‬فهد‭ ‬ونشرته‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬“هنا‭ ‬البحرين”‭ ‬يحمل‭ ‬عنوان‭: ‬“جسر‭ ‬الخير”،‭ ‬وبعد‭ ‬مرور‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬تناهز‭ ‬الـ‭ ‬35‭ ‬عامًا‭ ‬آليت‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أستعير‭ ‬العنوان‭ ‬ذاته‭ ‬وأكرر‭ ‬نشره‭ ‬اليوم‭ ‬مع‭ ‬أول‭ ‬فتح‭ ‬للجسر‭ ‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬الإغلاق،‭ ‬استنساخ‭ ‬العنوان‭ ‬ذاته،‭ ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬اختلاف‭ ‬المضمون،‭ ‬مع‭ ‬الشرح‭ ‬والتفنيد،‭ ‬لمغزى‭ ‬لافتة،‭ ‬وفحوى‭ ‬رسالة،‭ ‬وطبيعة‭ ‬مشروع‭ ‬رائد‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تحويل‭ ‬مملكة‭ ‬البحرين‭ ‬من‭ ‬جزيرة‭ ‬إلى‭ ‬شبه‭ ‬جزيرة،‭ ‬ومن‭ ‬بقعة‭ ‬أرض‭ ‬يانعة‭ ‬تحاط‭ ‬بها‭ ‬المياه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬اتجاه،‭ ‬إلى‭ ‬بقعة‭ ‬أرض‭ ‬مرتبطة‭ ‬بريًا‭ ‬بعمقها‭ ‬الخليجي‭ ‬العربي،‭ ‬وبوطنها‭ ‬الكبير‭ ‬من‭ ‬“الخليج‭ ‬إلى‭ ‬المحيط”‭.‬

قبل‭ ‬35‭ ‬عامًا‭ ‬كان‭ ‬“جسر‭ ‬الخير”‭ ‬ترحيبًا‭ ‬بالأشقاء‭ ‬من‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية‭ ‬الكبرى،‭ ‬تجسيدًا‭ ‬وتلميحًا‭ ‬وتصريحًا‭ ‬بعلاقات‭ ‬ضاربة‭ ‬جذورها‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬التاريخ،‭ ‬وتأكيدًا‭ ‬لضرورة‭ ‬حتمية‭ ‬وطنية‭ ‬وقومية‭ ‬آن‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تتجذر‭ ‬بوعي‭ ‬المنتمين،‭ ‬لتطرح‭ ‬ثمارًا‭ ‬من‭ ‬الازدهار‭ ‬والرخاء‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬الطيبة‭.‬

قبل‭ ‬سنة‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬ولدواعي‭ ‬صحية‭ ‬بحتة‭ ‬تم‭ ‬غلق‭ ‬جسر‭ ‬الخير‭ ‬بعد‭ ‬الهجمة‭ ‬الشرسة‭ ‬لجائحة‭ ‬كورونا،‭ ‬آثرنا‭ ‬الابتعاد‭ ‬المؤقت‭ ‬عن‭ ‬أشقاء‭ ‬سنظل‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إليهم‭ ‬وسيظلون‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلينا‭ ‬طالما‭ ‬تربطنا‭ ‬وشائج‭ ‬قربى،‭ ‬وأواصر‭ ‬محبة،‭ ‬ومصالح‭ ‬وأهداف‭ ‬وطنية‭ ‬مشتركة‭.‬

وبعد‭ ‬مرور‭ ‬سنة‭ ‬أو‭ ‬يزيد‭ ‬ها‭ ‬نحن‭ ‬اليوم‭ ‬أمام‭ ‬الفتح‭ ‬الثاني‭ ‬للجسر،‭ ‬أمام‭ ‬انسياب‭ ‬اقتصادي‭ ‬واجتماعي،‭ ‬وأمام‭ ‬حركة‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬للحياة‭ ‬المتبادلة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حبل‭ ‬سري‭ ‬لا‭ ‬يخطئ‭ ‬ضالته‭ ‬المنشودة،‭ ‬تم‭ ‬الافتتاح‭ ‬بهدوء‭ ‬ودخلت‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬ساعات‭ ‬من‭ ‬العودة‭ ‬الميمونة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬11‭ ‬ألف‭ ‬سيارة‭ ‬تحمل‭ ‬آلاف‭ ‬الأشقاء‭ ‬المنضبطين‭ ‬وفقًا‭ ‬لبروتوكول‭ ‬الرعاية‭ ‬الصحية‭ ‬الذي‭ ‬تفرضه‭ ‬السلطات‭ ‬في‭ ‬السعودية‭ ‬والبحرين‭ ‬بصرامة‭ ‬وحرص‭ ‬على‭ ‬صحة‭ ‬المواطنين‭ ‬والمقيمين،‭ ‬كل‭ ‬المواطنين‭ ‬وكل‭ ‬المقيمين‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تفرقة‭ ‬أو‭ ‬استثناء‭.‬

رغم‭ ‬كل‭ ‬المحاذير‭ ‬نحن‭ ‬نفتح‭ ‬قلوبنا‭ ‬مثلما‭ ‬هي‭ ‬العادة‭ ‬إلى‭ ‬الأشقاء‭ ‬من‭ ‬“الكبرى‭ ‬السعودية”،‭ ‬وكما‭ ‬هو‭ ‬الواقع‭ ‬وجدنا‭ ‬ذلك‭ ‬الإقبال‭ ‬منقطع‭ ‬النظير‭ ‬والشوق‭ ‬الجارف‭ ‬الوفير‭ ‬لزيارة‭ ‬الأشقاء‭ ‬إلى‭ ‬وطنهم‭ ‬الثاني‭ ‬البحرين،‭ ‬وبطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬فإن‭ ‬شعب‭ ‬البحرين‭ ‬المضياف،‭ ‬قد‭ ‬استقبل‭ ‬أشقائه‭ ‬السعوديين‭ ‬بكل‭ ‬ترحاب،‭ ‬بكل‭ ‬مودة‭ ‬وسعادة،‭ ‬وبكل‭ ‬تفهم‭ ‬لطبيعة‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬يرزح‭ ‬فيها‭ ‬الكون‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬جائحة‭ ‬امتد‭ ‬أمدها‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬المتوقع،‭ ‬فذهبت‭ ‬بالبشرية‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬يكون‭.‬

الانفتاح‭ ‬مع‭ ‬الجائحة‭ ‬معادلة‭ ‬شبه‭ ‬صعبة‭ ‬نستطيع‭ ‬بحكمة‭ ‬اللجنة‭ ‬التنسيقية‭ ‬وبحنكة‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬الشأن‭ ‬الصحي‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬أن‭ ‬نفك‭ ‬شفرتها،‭ ‬أن‭ ‬نقتفي‭ ‬خطواتها‭ ‬وأن‭ ‬نعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬الأوراق‭ ‬بما‭ ‬يفي‭ ‬بحاجات‭ ‬طارئة‭ ‬مُلحة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الكورونا،‭ ‬وكل‭ ‬كورونا‭.‬

كنا‭ ‬ومازلنا‭ ‬نأمل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يتفق‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬كلمة‭ ‬سواء،‭ ‬بشأن‭ ‬اللقاحات‭ ‬والاحترازات،‭ ‬والأفق‭ ‬التعاوني‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية،‭ ‬كنا‭ ‬نأمل‭ ‬ومازلنا‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تعترف‭ ‬السعودية‭ ‬الشقيقة‭ ‬بجميع‭ ‬اللقاحات‭ ‬المعتمدة‭ ‬في‭ ‬مملكة‭ ‬البحرين‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تفرقة‭ ‬أو‭ ‬استثناء‭.‬

وكنا‭ ‬نأمل‭ ‬ومازلنا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الشرح‭ ‬الوافي‭ ‬من‭ ‬السلطات‭ ‬الصحية‭ ‬في‭ ‬البلدين‭ ‬الشقيقين‭ ‬والتعاون‭ ‬التاريخي‭ ‬بينهما‭ ‬يتم‭ ‬ترجمته‭ ‬إلى‭ ‬بروتوكول‭ ‬تعاون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬مواجهة‭ ‬كورونا‭ ‬بجميع‭ ‬الوسائل‭ ‬المتاحة،‭ ‬وبجميع‭ ‬اللقاحات‭ ‬الناجعة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إقصاء‭ ‬أو‭ ‬استغناء،‭ ‬وبجميع‭ ‬الإجراءات‭ ‬والقوانين‭ ‬المرعية‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬الأهم‭ ‬فالمهم‭.‬

إن‭ ‬المنطقة‭ ‬والعالم‭ ‬يواجهان‭ ‬ربما‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬جائحة‭ ‬طويلة‭ ‬المدى،‭ ‬وباء‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬جديد،‭ ‬يستطيع‭ ‬العيش‭ ‬مترافقًا‭ ‬مع‭ ‬الإنسان،‭ ‬“إما‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬وإما‭ ‬ألا‭ ‬يكون”،‭ ‬يعني‭ ‬“قاتلًا‭ ‬أو‭ ‬مقتولًا”،‭ ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬خطورة‭ ‬هذا‭ ‬الفيروس‭ ‬القابل‭ ‬للهروب‭ ‬من‭ ‬اللقاح،‭ ‬والمقاوم‭ ‬لمختلف‭ ‬العلاجات‭ ‬التي‭ ‬مازالت‭ ‬في‭ ‬طور‭ ‬التجربة‭ ‬والتكوين،‭ ‬فيروس‭ ‬عنيد‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬لأسابيع‭ ‬طويلة‭ ‬داخل‭ ‬الجسم‭ ‬المصاب،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬فترة‭ ‬حضانة‭ ‬محددة،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬ظهور‭ ‬مربك‭ ‬لأعراض‭ ‬حادة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬“ما”،‭ ‬هو‭ ‬يختار‭ ‬المنطقة‭ ‬الأضعف‭ ‬في‭ ‬الجسم‭ ‬فيفتك‭ ‬بها،‭ ‬ويختار‭ ‬الجسد‭ ‬الأقل‭ ‬مناعة‭ ‬فيصيبه‭ ‬والله‭ ‬وحده‭ ‬الشافي‭.‬

العالم‭ ‬كله‭ ‬يعيش‭ ‬زمنًا‭ ‬حرجًا‭ ‬مع‭ ‬جائحة،‭ ‬وحياة‭ ‬صعبة‭ ‬مع‭ ‬وباء،‭ ‬ومستقبل‭ ‬غير‭ ‬مضمون‭ ‬العواقب‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬العيش‭ ‬مع‭ ‬فيروس‭ ‬خائن‭ ‬بجميع‭ ‬المقاييس‭ ‬العلمية‭ ‬والنتائج‭ ‬البحثية‭ ‬والبروتوكولات‭ ‬الصحية‭.‬

جسر‭ ‬الخير‭ ‬جاء‭ ‬فاتحة‭ ‬خير‭ ‬رغم‭ ‬الجائحة،‭ ‬وجسر‭ ‬الخير‭ ‬سيظل‭ ‬نبعًا‭ ‬للحياة‭ ‬وشريانًا‭ ‬للدماء‭ ‬بين‭ ‬شعبين‭ ‬شقيقين،‭ ‬بل‭ ‬بين‭ ‬شعب‭ ‬واحد‭ ‬متحد‭ ‬ما‭ ‬يربطه‭ ‬أكبر‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬وباء‭ ‬لعين،‭ ‬وما‭ ‬يجمعه‭ ‬أعمق‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬والمكان‭ ‬والإنسان،‭ ‬وأهلًا‭ ‬وسهلًا‭ ‬بالأشقاء‭.‬