قهوة الصباح

من هنا ابتدأ المشوار

| سيد ضياء الموسوي

منذ‭ ‬عشرين‭ ‬عاما،‭ ‬وأنا‭ ‬أمارس‭ ‬ذات‭ ‬الخطاب‭. ‬مشروعي‭ ‬هو‭ ‬نشر‭ ‬الوسطية،‭ ‬ومنهج‭ ‬الاعتدال،‭ ‬وثقافة‭ ‬الحياة‭. ‬كل‭ ‬علم‭ ‬درسته،‭ ‬قرأته‭ ‬بمنطق‭ ‬عقلي‭ ‬نقدي،‭ ‬لا‭ ‬أؤمن‭ ‬بصنمية‭ ‬المعرفة‭ ‬وجعلها‭ ‬تمثالا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الله‭.‬

أحمل‭ ‬مطرقة‭ ‬وريشة‭ ‬فن،‭ ‬مطرقة‭ ‬نقد‭ ‬لأي‭ ‬شيء‭ ‬يخالف‭ ‬العقل،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الفيلسوف‭ ‬ابن‭ ‬رشد،‭ ‬ولو‭ ‬لقناعة‭ ‬شخصية،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أفرضها‭ ‬على‭ ‬الآخرين،‭ ‬وريشة‭ ‬ألون‭ ‬بها‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬أؤمن‭ ‬بها‭.‬

درست‭ ‬الفلسفة‭ ‬كي‭ ‬أمارس‭ ‬النقد‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬فكرا‭ ‬وسياسة‭ ‬واجتماعا‭. ‬بدأت‭ ‬عندي‭ ‬عملية‭ ‬النقد،‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬26‭ ‬عاما‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ (‬قم‭) ‬عندما‭ ‬أصبت‭ ‬بصدمات‭ ‬معرفية‭ ‬وسياسية‭ ‬للواقع،‭ ‬وبسبب‭ ‬تسرب‭ ‬كتب‭ ‬فلسفية،‭ ‬تسللت‭ ‬إلى‭ ‬مكتبتي‭. ‬أتذكر‭ ‬حينها،‭ ‬رحت‭ ‬أقضي‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬سبع‭ ‬إلى‭ ‬عشر‭ ‬ساعات،‭ ‬وأنا‭ ‬أقرأ‭ ‬منقبا‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬الوجودية،‭ ‬وكيف‭ ‬هي‭ ‬علاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬مع‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭.‬

قرأت‭ ‬لنيتشه‭ ‬وفولتير‭ ‬وجان‭ ‬جاك‭ ‬روسو‭ ‬وديكارت‭ ‬وسيرة‭ ‬حياتهم‭... ‬إلخ‭. ‬

أصبحت‭ ‬أقرأ‭ ‬مفاهيم‭ ‬جديدة،‭ ‬تختلف‭ ‬عما‭ ‬كنت‭ ‬أقرأه‭ ‬وأسمعه،‭ ‬وهنا‭ ‬بدأت‭ ‬تتساقط‭ ‬الحجارة‭ ‬عن‭ ‬الإسمنت‭ ‬العقلي‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أرى‭ ‬فيه‭ ‬الوجود‭. ‬إن‭ ‬الجنة‭ ‬فقط‭ ‬للمسلمين،‭ ‬أو‭ ‬إن‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬شيطان،‭ ‬ولا‭ ‬إيجابية‭ ‬فيه،‭ ‬وإن‭ ‬كل‭ ‬نظام‭ ‬ليس‭ ‬دينيا‭ ‬هو‭ ‬نظام‭ ‬شيطاني،‭ ‬وإن‭ ‬الموت‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬وإن‭ ((‬الدنيا‭ ‬سجن‭ ‬المؤمن‭ ‬وجنة‭ ‬المنافق‭)) ‬التي‭ ‬فهمت‭ ‬خطأ‭ ‬من‭ ‬المفسرين‭. ‬رحت‭ ‬أنقب‭ ‬في‭ ‬الأحاديث‭ ‬بـ‭ ((‬فلتر‭ ‬نقدي‭)) ‬لكل‭ ‬الأديان،‭ ‬فاكتشفت‭ ‬الجميل‭ ‬منها،‭ ‬والآحاد‭ ‬والضعيف‭ ‬والمتواتر‭... ‬إلخ،‭ ‬فعرفت‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬التفاسير‭ ‬هي‭ ‬تفاسير‭ ‬بشرية‭ ‬محكومة‭ ‬بمدى‭ ‬عمق‭ ‬المفسر‭. ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬كتب‭ ‬سيد‭ ‬قطب‭ ‬وتفسيرة‭ ((‬في‭ ‬ظلال‭ ‬القرآن‭ ))‬،‭ ‬والمودودي‭. ‬وحضرت‭ ‬دروس‭ ‬علماء‭ ‬كالشيخ‭ ‬حسن‭ ‬الجواهري‭ ‬في‭ ‬منتدى‭ ‬جبل‭ ‬عامل،‭ ‬والسيد‭ ‬الشاهرودي،‭ ‬وبعض‭ ‬الحلقات‭ ‬ودروس‭ ‬القرآن‭ ‬والأخلاق‭ ‬عند‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬مهدي‭ ‬الآصفي،‭ ‬حضرت‭ ‬لهم‭ ‬لكن‭ ‬بعقل‭ ‬نقدي‭ ‬ديكارتي‭.‬

حصلت‭ ‬على‭ ((‬Satellite‭)) ‬من‭ ‬شخص‭ ‬عراقي‭ ‬في‭ ‬طهران،‭ ‬وبقيت‭ ‬لليال،‭ ‬وأنا‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬أفكار‭ ‬خارج‭ ‬الصندوق،‭ ‬وكنت‭ ‬مقتنعا‭ ‬بالعودة‭ ‬لوطني‭ ‬بعد‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬معاناة‭ ‬مكابرة‭ ‬غربة‭ ‬مؤلمة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تقلد‭ ‬جلالة‭ ‬الملك‭ ‬مقاليد‭ ‬الحكم،‭ ‬وانبثاق‭ ‬ميثاق‭ ‬العمل‭ ‬الوطني‭. ‬رحت‭ ‬مسرعا‭ ‬للسفارة‭ ‬في‭ ‬طهران‭ ‬مصوتا‭ ‬بنعم،‭ ‬رغم‭ ‬معارضة‭ ‬كثير‭ ‬ممن‭ ‬كانوا‭ ‬معي‭ ‬من‭ ‬الطلبة‭ ‬وعلية‭ ‬القوم‭ ‬في‭ ‬قم‭. ‬رأيت‭ ‬في‭ ‬التلفاز‭ ‬الزيارة‭ ‬الميمونة‭ ‬لجلالة‭ ‬الملك‭ ‬لمنطقة‭ ‬سترة،‭ ‬ورأيت‭ ‬جلالة‭ ‬الملك،‭ ‬وهو‭ ‬يبعث‭ ‬الأمل،‭ ‬وكيف‭ ‬يوزع‭ ‬النور‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬عبر‭ ‬مشروعه‭ ‬الإصلاحي،‭ ‬وكان‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬خلدي،‭ ‬كيف‭ ‬كانت‭ ‬علاقة‭ ‬بعض‭ ‬فلاسفة‭ ‬ومثقفي‭ ‬الغرب‭ ‬مع‭ ‬قادتهم‭ ‬الحكماء،‭ ‬فقلت‭ ‬في‭ ‬نفسي،‭ ‬إن‭ ‬رجعت‭ ‬للوطن،‭ ‬سوف‭ ‬أحارب‭ ‬بكل‭ ‬أسلحة‭ ‬المعرفة،‭ ‬والواقعية‭ ‬السياسية‭ ‬الوطنية،‭ ‬وبحب‭ ‬وولاء‭ ‬وبشفافية‭ ‬ووضوح‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬المشروع‭ ‬الإصلاحي،‭ ‬وعن‭ ‬هم‭ ‬الناس‭ ‬بكل‭ ‬وطنية؛‭ ‬لأني‭ ‬قرأت‭ ‬في‭ ‬المشروع‭ ‬حياة‭.‬

ورجعت‭ ‬البحرين،‭ ‬قبلت‭ ‬ترابها‭ ‬عند‭ ‬خروجي‭ ‬من‭ ‬المطار،‭ ‬وأخذت‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬عهدا،‭ ‬أن‭ ‬أدافع‭ ‬عن‭ ‬التنوير،‭ ‬وعن‭ ‬الإصلاح،‭ ‬وأن‭ ‬أنور‭ ‬الشباب‭ ‬من‭ ‬تجربتي‭ ‬المؤلمة‭ ‬في‭ ‬غربة‭ ‬حولت‭ ‬القلب‭ ‬إلى‭ ‬شظايا‭ ‬مبعثرة‭ ‬على‭ ‬شغاف‭ ‬القلب،‭ ‬وأن‭ ‬أنقذ‭ ‬أي‭ ‬إنسان،‭ ‬وألا‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬أخطاء‭ ‬الانفعال‭ ‬الوجودي،‭ ‬الذي‭ ‬وقعت‭ ‬فيه‭ ‬بسبب‭ ‬قلة‭ ‬الخبرة‭ ‬وهياج‭ ‬الشباب‭ ‬وإغراء‭ ‬الشعارات،‭ ‬واضعا‭ ‬يدي‭ ‬بيد‭ ‬جلالة‭ ‬الملك‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬المشروع‭ ‬الإصلاحي‭ ‬وحب‭ ‬الوطن،‭ ‬مدافعا‭ ‬عن‭ ‬الحُكم‭ ‬والوحدة‭ ‬الوطنية‭ ‬والناس‭. ‬ومنذ‭ ‬عشرين‭ ‬عاما،‭ ‬وأنا‭ ‬أدافع،‭ ‬لا‭ ‬يوقفني‭ ‬شيء،‭ ‬خطابي‭ ‬شفاف‭ ‬كدمعة‭ ‬وكقطعة‭ ‬كرستال‭. ‬وبقيت‭ ‬أطرح‭ ‬الثقافة‭ ‬التنويرية‭ ‬كمنهج‭. ‬مشيت‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬السكين،‭ ‬وفي‭ ‬يدي‭ ‬مصباح،‭ ‬وعيني‭ ‬يسكنها‭ ‬قناص،‭ ‬أخرج‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬لاصطياد‭ ‬الجمال،‭ ‬أكان‭ ‬كتابا‭ ‬أو‭ ‬قطعة‭ ‬ثياب‭ ‬أو‭ ‬لوحة‭ ‬فنية‭ ‬أو‭ ‬ديكور‭ ‬ساحر،‭ ‬أو‭ ‬موسيقى‭ ‬رائعة‭ ‬أو‭ ‬بلدا‭ ‬جميلا،‭ ‬ورحت‭ ‬مسافرا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬العالم‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬قطع‭ ‬مبعثرة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬لأكمل‭ ‬لوحة‭ ‬الحقيقة‭ ‬المقطعة‭ ‬والموزعة‭ ‬على‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية‭. ‬

احتضنتني‭ ‬باريس،‭ ‬ونمت‭ ‬على‭ ‬ذراعها‭ ‬لسنين‭ ‬لأخفف‭ ‬غربة‭ ‬مركبة‭. ‬كنت‭ ‬أعلم‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الجماهير‭ ‬ستبرمج‭ ‬ضد‭ ‬خطابي،‭ ‬وتتوتر،‭ ‬لكني‭ ‬آثرت‭ ‬أن‭ ‬أخدم‭ ‬الناس‭ ‬حتى‭ ‬المضللين‭ ‬ليوم‭ ‬ما‭ ‬سيكتشفون‭ ‬أني‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬سعادتهم‭ ‬ومصلحتهم،‭ ‬لذلك‭ ‬صرخت‭ ‬مع‭ ‬المشاركة‭ ‬النيابية‭ ‬ضد‭ ‬المقاطعة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المراحل،‭ ‬ورفضت‭ (‬الربيع‭ ‬العربي‭)‬؛‭ ‬لأني‭ ‬أعلم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬خبرة‭ ‬الوجع‭ ‬أنه‭ ‬مصيدة‭ ‬للأوطان،‭ ‬والشباب‭ ‬الضائع‭. ‬وكنت‭ ‬أفتح‭ ‬ملفات‭ ‬تمس‭ ‬النبض‭ ‬وأدافع‭ ‬بوطنية‭ ‬واعتدال‭ ‬وبضمير‭ ‬وقلب‭ ‬ينبض‭ ‬بحب‭ ‬المشروع‭ ‬الإصلاحي‭ ‬والوطن‭ ‬والناس‭.‬

ومنذ‭ ‬تشريع‭ ‬قانون‭ ‬العقوبات‭ ‬البديلة،‭ ‬وأنا‭ ‬أدافع‭ ‬عنه؛‭ ‬لإنقاذ‭ ‬أي‭ ‬شاب‭ ‬ذهب‭ ‬ضحية‭ ‬شعار‭ ‬قاتل‭ ‬ومضلل‭ ‬لأمنحه‭ ‬فرصة‭ ‬الاندماج‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬وحب‭ ‬القيادة‭ ‬وبناء‭ ‬الوطن،‭ ‬فلامست‭ ‬أوجاع‭ ‬الأمهات‭ ‬بخطابات‭ ‬صوتية‭ ‬وفيديوهات‭ ‬ونصوص‭ ‬ومقالات‭ ‬ومازلت‭ ‬مستمرا،‭ ‬لصناعة‭ ‬أمل‭. ‬وكلما‭ ‬أنقذت‭ ‬شابا‭ ‬كلما‭ ‬كانت‭ ‬سعادتي‭ ‬الكبرى؛‭ ‬لأني‭ ‬أجد‭ ‬الإنسانية‭ ‬هي‭ ‬فلسفتي‭ ‬في‭ ‬الوجود؛‭ ‬لأني‭ ‬مؤمن‭ ‬بإله‭ ‬الحب‭ ‬والجمال‭ ‬والإنسان‭. ‬

من‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬جلالة‭ ‬الملك‭ ‬يعرف‭ ‬نبض‭ ‬حبه‭ ‬للناس،‭ ‬وتطلعاته‭ ‬لبناء‭ ‬وطن‭ ‬كبير،‭ ‬وسعادته‭ ‬عندما‭ ‬يرى‭ ‬كل‭ ‬مواطن‭ ‬سعيدا‭. ‬المشروع‭ ‬الإصلاحي‭ ‬لم‭ ‬يعط‭ ‬فرصة،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الجنينية‭ ‬والقنوات‭ ‬والمنظمات‭ ‬والشخصيات‭ ‬تحاول‭ ‬إجهاضه‭ ‬وتشويهه‭ ‬بكل‭ ‬الصور‭. ‬صدقوني،‭ ‬المشروع‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬رجال‭ ‬وطنيين‭ ‬ووسطيين،‭ ‬ولا‭ ‬يؤمنون‭ ‬بالقفز‭ ‬السياسي‭ ‬وحرق‭ ‬المراحل‭. ‬قفوا‭ ‬مع‭ ‬المشروع،‭ ‬وسترون‭ ‬بأم‭ ‬العين‭ ‬أن‭ ‬أجمل‭ ‬الأيام‭ ‬يوم‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬بعد‭.‬