قهوة الصباح

كيف نحوِّل النزف إلى عزف والإثارة إلى قيثارة؟

| سيد ضياء الموسوي

منذ‭ ‬1996‭ ‬وبعد‭ ‬نوم‭ ‬مئات‭ ‬الكتب‭ ‬الفلسفية‭ ‬والفكرية‭ ‬على‭ ‬ذراعي‭ ‬كحبيبة،‭ ‬وبعد‭ ‬تعرفي‭ ‬على‭ ‬ديكارت‭ ‬وجون‭ ‬لوك‭ ‬وأفلاطون‭ ‬ونيتشه‭ ‬وتشارلز‭ ‬ديكنز‭ ‬وجان‭ ‬جنيه‭ ‬ونزار‭ ‬قباني،‭ ‬وسهري‭ ‬حتى‭ ‬الصباح،‭ ‬وأنا‭ ‬أحتسي‭ ‬القهوة‭ ‬مع‭ ‬كتاب‭ ‬نهج‭ ‬البلاغة‭ ‬للإمام‭ ‬علي‭ (‬ع‭) ‬مع‭ ‬إبهارات‭ ‬قصة‭ ‬الحضارة‭ ‬للمؤرخ‭ ‬الأميركي‭ ‬ويل‭ ‬ديورانت،‭ ‬والروايات‭ ‬العالمية‭ ‬لهوغو،‭ ‬وهمنجواي،‭ ‬منذ‭ ‬ذاك‭ ‬الوقت،‭ ‬وأنا‭ ‬أحمل‭ ‬مصباحا‭ ‬أخرج‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬لاصطياد‭ ‬الحقيقة‭. ‬

أنا‭ ‬شخص‭ ‬لا‭ ‬ألقي‭ ‬بندقيتي‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬وهناك‭ ‬في‭ ‬غابة‭ ‬الحياة‭ ‬غزالة‭ ‬حقيقة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬اصطياد‭. ‬يقول‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭: ‬“أنا‭ ‬كثعلب‭ ‬الغابة،‭ ‬لا‭ ‬يريح‭ ‬ولا‭ ‬يستريح”‭. ‬

قررت‭ ‬أن‭ ‬أطرح‭ ‬رأيي‭ ‬لخدمة‭ ‬وطني‭ ‬والناس‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أحمل‭ ‬شهادة‭ ‬تأمين‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬غضب‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يفهمني؛‭ ‬ليقيني‭ ‬أن‭ ‬الحجارة‭ ‬التي‭ ‬تلقى‭ ‬على‭ ‬نافذة‭ ‬كلماتي‭ ‬ستتحول‭ - ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يكتشف‭ ‬الناس‭ ‬ولو‭ ‬بعد‭ ‬عشرات‭ ‬السنين‭ ‬صحتها‭ - ‬إلى‭ ‬باقات‭ ‬ورد‭. ‬كل‭ ‬حجرة‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬فراشة‭ ‬زرقاء‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬التنوير‭. ‬

هذا‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬اليوم،‭ ‬عشرات‭ ‬الإميلات،‭ ‬والاتصالات‭ ‬التي‭ ‬تصلني‭ ‬محملة‭ ‬بالعطر‭ ‬وماء‭ ‬الورد،‭ ‬أصبحت‭ ‬مقتنعة‭ ‬أن‭ ‬المطالبة‭ ‬بالحقوق‭ ‬تكون‭ ‬بدعم‭ ‬القيادة‭ ‬والوطن‭ ‬والركون‭ ‬للعقل‭ ‬والوسطية‭ ‬والاتزان‭. ‬قلت‭ ‬قبل‭ ‬20‭ ‬عاما‭ ‬بكل‭ ‬وضوح‭ ‬وفي‭ ‬صحيفة‭ ‬الأيام‭: ‬“مقاطعة‭ ‬الانتخابات‭ ‬البرلمانية‭ ‬خطأ‭ ‬استراتيجي”‭. ‬وسكت‭ ‬البعض‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬غضب‭ ‬الجماهير‭ ‬وأظافرها‭. ‬

نعم،‭ ‬تم‭ ‬إلقاء‭ ‬الرصاص‭ ‬الكاتم‭ ‬للصوت‭ ‬ضد‭ ‬كل‭ ‬عصافير‭ ‬أفكاري‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬لكني‭ ‬لم‭ ‬أهتم،‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أطفئ‭ ‬الحرائق‭ ‬بماء‭ ‬الورد،‭ ‬وأحول‭ ‬البنزين‭ ‬إلى‭ ‬ياسمين،‭ ‬وأرش‭ ‬الجروح‭ ‬بالسكر‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الملح‭. ‬وقفت‭ ‬ضد‭ ‬“الاستقالات‭ ‬البرلمانية”‭ ‬في‭ ‬2011‭ ‬وسكت‭ ‬البعض‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬خسران‭ ‬الشعبية‭ ‬الجماهيرية‭ ‬المنتعشة‭ ‬من‭ ‬خمرة‭ ‬الشعارات‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬وانزلقنا‭ ‬للكارثة‭. ‬دعوت‭ ‬بعشرات‭ ‬المقالات‭ ‬لعدم‭ ‬مقاطعة‭ ‬انتخابات‭ ‬2014‭ ‬و2018‭ ‬والبعض‭ ‬صمت‭ ‬ومازلت‭ ‬أحمل‭ ‬مطرقة‭ ‬فيلسوف‭ ‬المطرقة‭ (‬نيتشه‭)‬،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬وليس‭ ‬الفلسفة‭. ‬

راهنت‭ ‬على‭ ‬قانون‭ ‬العقوبات‭ ‬البديلة،‭ ‬ودعمته‭ ‬بقوة،‭ ‬وخرج‭ ‬من‭ ‬“كفرني‭ ‬بخطاب‭ ‬وبالاسم”،‭ ‬ابتسمت،‭ ‬وأنا‭ ‬أنزع‭ ‬الشوك‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬ذراعي‭ ‬وذراع‭ ‬الوطن،‭ ‬ومازلت‭ ‬أمشي‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬السكين‭ ‬مراهنا‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬النزف‭ ‬إلى‭ ‬عزف‭ ‬والإثارة‭ ‬إلى‭ ‬قيثارة‭. ‬

وها‭ ‬نحن‭ ‬اليوم،‭ ‬نشهد‭ ‬أهمية‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬في‭ ‬تهدئة‭ ‬القلوب،‭ ‬وفرح‭ ‬وسعادة‭ ‬الناس،‭ ‬وحجم‭ ‬الارتياح‭ ‬الذي‭ ‬يعم‭ ‬الأهالي‭ ‬أملا‭ ‬للخلاص‭ ‬من‭ ‬علاقة‭ ‬كنسية‭ ‬مع‭ ‬الألم،‭ ‬وتقر‭ ‬العيون،‭ ‬وتكون‭ ‬طريقا‭ ‬لمراجعة‭ ‬الأخطاء،‭ ‬والعمل‭ ‬جميعا‭ ‬صفا‭ ‬واحدا‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬القيادة‭ ‬والوطن‭ ‬والوحدة‭ ‬الوطنية،‭ ‬وتركيز‭ ‬الحقوق‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع‭ ‬المدني‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬البيانات‭ ‬المتورمة‭ ‬التبسيطية‭ ‬الإنشائية‭ ‬المكرورة‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬عاديهتم‭ ‬بها‭ ‬غالبية‭ ‬الناس‭. ‬

راهنت‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬الجروح‭ ‬إلى‭ ‬أجنحة،‭ ‬وحقول‭ ‬الألغام‭ ‬إلى‭ ‬أنغام،‭ ‬والخنجر‭ ‬إلى‭ ‬مبخر،‭ ‬والحجر‭ ‬إلى‭ ‬قمر،‭ ‬والنزف‭ ‬إلى‭ ‬عزف،‭ ‬ومازلت‭ ‬أسير‭. ‬ومازلت‭ ‬مؤمنا‭ ‬وبلغة‭ ‬الأرقام‭ ‬مع‭ ‬نقد‭ ‬فلسفي‭ ‬معرفي‭ ‬ميداني،‭ ‬ذي‭ ‬بُعد‭ ‬فقهي‭ ‬أصولي‭ ‬تاريخي‭ ‬مستندا‭ ‬على‭ ‬أدلة‭ ‬علمية‭ ‬وعقلية‭ ‬ونقلية‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬مسار‭ ‬الاعتدال‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يخدم‭ ‬الوطن‭ ‬والناس،‭ ‬وليس‭ ‬مسار‭ ‬“النظرية‭ ‬الثورية”‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬المقاطعة‭ ‬ودفع‭ ‬الفواتير‭ ‬السياسية‭ ‬وإدخال‭ ‬أبنائنا‭ ‬الصغار‭ ‬في‭ ‬طاحونة‭ ‬الموت‭ ‬ونيران‭ ‬المحارق،‭ ‬نظرية‭ ‬تخون‭ ‬أي‭ ‬صاحب‭ ‬رأي‭ ‬آخر‭. ‬

إن‭ ‬مسار‭ ‬نظرية‭ ‬“الواقعية‭ ‬السياسية‭ ‬الوطنية‭ ‬التسامحية”‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬الدولة،‭ ‬وتعزيز‭ ‬الثقة‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬نظرية‭ ‬الاعتدال‭ ‬والتوازن‭ ‬والعقل‭ ‬وحل‭ ‬ملفات‭ ‬المجتمع‭ ‬بالهدوء‭ ‬والمنطق‭ ‬هو‭ ‬الصحيح،‭ ‬لذلك‭ ‬سأعمل‭ ‬لأجل‭ ‬خدمة‭ ‬الناس‭ ‬والوطن،‭ ‬“فلا‭ ‬أستطيع‭ ‬أبدا‭ ‬أن‭ ‬أغلق‭ ‬فمي‭ ‬حيث‭ ‬فتحت‭ ‬قلبي”‭. ‬أنا‭ ‬أحارب‭ ‬الناس‭ ‬بالحب‭ ‬ولا‭ ‬أكدس‭ ‬على‭ ‬صدري‭ ‬صناديق‭ ‬قمامة‭ ‬حقد‭ ‬على‭ ‬أحد‭. ‬أنا‭ ‬أطرح‭ ‬ما‭ ‬أؤمن‭ ‬به‭ ‬بكل‭ ‬وضوح،‭ ‬وهذه‭ ‬نظريتي‭ ‬التي‭ ‬أحارب‭ ‬من‭ ‬أجلها‭.‬

‭ ‬20‭ ‬عاما‭ ‬ونظريتي‭ ‬هي‭ ‬الاعتدال‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الأركان‭ ‬الأساسية‭: ‬الوطن،‭ ‬القيادة‭ ‬الناس،‭ ‬الإنسانية،‭ ‬الحب‭ ‬الجمال،‭ ‬القيم‭. ‬يقول‭ ‬دوستويفيسكي‭ ‬“أنا‭ ‬أنطق‭ ‬مالا‭ ‬تجرؤ‭ ‬أنت‭ ‬بالتفكير‭ ‬فيه”‭. ‬هذه‭ ‬ليست‭ ‬نرجسية،‭ ‬بل‭ ‬دفاع‭ ‬عن‭ ‬مبادئي‭ ‬التي‭ ‬أراها‭ ‬تنقد‭ ‬الناس‭. ‬

دعوني‭ ‬أخبركم‭ ‬خبرا‭: ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬تغيروا‭ ‬الآن،‭ ‬وأصبحوا‭ ‬يؤمنون‭ ‬بالخطاب‭ ‬المعتدل،‭ ‬وثقافة‭ ‬العقل‭ ‬التي‭ ‬مازلت‭ ‬أدعو‭ ‬لها‭ ‬منذ‭ ‬20‭ ‬عاما،‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬ازدياد،‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬تواصل‭ ‬معهم‭. ‬وعشرات‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬ملوا‭ ‬من‭ ‬خطابات‭ ‬ثورية‭ ‬مكررة،‭ ‬ويريدون‭ ‬ترك‭ ‬هذه‭ ‬الأدبيات‭ ‬وأعلن‭ ‬بعضهم‭ ‬“التوبة‭ ‬السياسية”،‭ ‬التوبة‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تزدنا‭ ‬إلا‭ ‬ضياعا‭. ‬وأقول‭ ‬لكم‭: ‬الإقصاء‭ ‬والتخوين‭ ‬المبطن‭ ‬أو‭ ‬الصريح‭ ‬سيشمل‭ ‬الآن‭ ‬ومستقبلا‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬جديد‭ ‬يسعى‭ ‬لصناعة‭ ‬أمل،‭ ‬عالم‭ ‬دين‭ ‬كان‭ ‬أو‭ ‬نائبا‭ ‬أو‭ ‬تاجرا‭ ‬أو‭ ‬مثقفا‭. ‬لن‭ ‬يوفروا‭ ‬أحدا،‭ ‬لكن‭ ‬المهم‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬نواصل‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬ثقافة‭ ‬التنوير،‭ ‬ودعم‭ ‬الوطن‭ ‬والقيادة‭ ‬والناس،‭ ‬“فعصفور‭ ‬واحد‭ ‬يغرد‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬كفيل‭ ‬بعودة‭ ‬الربيع”‭.‬