في مديح العزلة المنزلية

| أميرة صليبيخ

غالبا‭ ‬ما‭ ‬تثير‭ ‬كلمة‭ ‬“العزلة”‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬والقلق‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬البشر،‭ ‬وبطبيعة‭ ‬الإنسان‭ (‬الحيوان‭ ‬الاجتماعي‭) ‬فإنه‭ ‬يرفض‭ ‬هذه‭ ‬العزلة‭ ‬ويسارع‭ ‬للدخول‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬قطيع‭ ‬البشر‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يوصم‭ ‬بأنه‭ ‬وحيد‭ ‬ومعزول‭.‬

لكن‭ ‬العزلة‭ ‬بريئة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التهم،‭ ‬ولولا‭ ‬فوائدها‭ ‬ما‭ ‬لجأ‭ ‬العظماء‭ ‬لها‭ ‬باختيارهم،‭ ‬مقدّرين‭ ‬قيمة‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات‭ ‬من‭ ‬الخلوة‭ ‬التي‭ ‬تعيد‭ ‬للإنسان‭ ‬توازنه،‭ ‬ويستعيد‭ ‬بها‭ ‬اتصاله‭ ‬بذاته‭ ‬الحقيقية‭ ‬المنسية‭ ‬في‭ ‬غمرة‭ ‬الحياة‭ ‬المدنية‭ ‬المتسارعة،‭ ‬وكل‭ ‬الفوضى‭ ‬والضوضاء‭ ‬المصدّرة‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قنوات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬التي‭ ‬تهتك‭ ‬عرض‭ ‬عزلته‭ ‬وتأسر‭ ‬حواسه‭ ‬وتبقيه‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬عن‭ ‬نفسه،‭ ‬فحتى‭ ‬لو‭ ‬بقي‭ ‬وحيدا‭ ‬في‭ ‬غرفته‭ ‬فإن‭ ‬سطوتها‭ ‬هي‭ ‬الحاضرة‭ ‬وهي‭ ‬المتحكمة‭ ‬باللحظة،‭ ‬فيضيع‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬يوما‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬دون‭ ‬إدراك‭ ‬ووعي‭ ‬منه‭.‬

الفيلسوف‭ ‬والعالم‭ ‬الفرنسي‭ ‬ديكارت‭ ‬“أبوالفلسفة‭ ‬الحديثة”‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يجري‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المحادثات‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬كان‭ ‬حتّى‭ ‬لا‭ ‬تشغله‭ ‬عن‭ ‬عزلته‭ ‬التي‭ ‬يقضيها‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬والتقصي‭ ‬والتفرغ‭ ‬للتباحث‭ ‬مع‭ ‬أفكاره،‭ ‬أما‭ ‬الكاتب‭ ‬الأرجنتيني‭ ‬صاحب‭ ‬أضخم‭ ‬مكتبة‭ ‬شخصية‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬ألبرتو‭ ‬مانغويل‭ ‬فيقول‭ ‬عن‭ ‬عزلته‭ ‬المختارة‭ ‬للتفرغ‭ ‬للقراءة‭ ‬“لقد‭ ‬أعطتني‭ ‬القراءة‭ ‬عذرًا‭ ‬مقبولاً‭ ‬لعزلتي،‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬أعطت‭ ‬مغزى‭ ‬لتلك‭ ‬العزلة‭ ‬المفروضة‭ ‬علي”‭. ‬لقد‭ ‬اختار‭ ‬مانغويل‭ ‬العزلة‭ ‬برفقة‭ ‬الكتب‭ ‬على‭ ‬رفقة‭ ‬الناس‭.‬

العزلة‭ ‬الاختيارية‭ ‬هي‭ ‬حاجة‭ ‬أساسية‭ ‬وواجب‭ ‬اللجوء‭ ‬لها‭ ‬بين‭ ‬وقت‭ ‬وآخر‭ ‬حتى‭ ‬يستطيع‭ ‬الإنسان‭ ‬تقييم‭ ‬جودة‭ ‬حياته،‭ ‬وصولا‭ ‬لأهدافه‭ ‬بسهولة‭ ‬دون‭ ‬تشتت‭ ‬وتخبط‭.. ‬يقول‭ ‬الروائي‭ ‬الكبير‭ ‬دوستوفسكي‭ ‬“العزلة‭ ‬زاوية‭ ‬صغيرة‭ ‬يقف‭ ‬فيها‭ ‬المرء‭ ‬أمام‭ ‬نفسه”‭.‬

ترى‭ ‬متى‭ ‬ستتجرأ‭ ‬أنت‭ ‬للوقوف‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬نفسك‭ ‬بعزلة‭ ‬عن‭ ‬الآخرين‭ ‬وتقول‭ ‬لها‭ ‬مرحبا‭... ‬تشرفت‭ ‬بلقائك‭ ‬من‭ ‬جديد؟‭.‬