التدخين وانتهاك الحريات

| هدى حرم

وكأنَّ‭ ‬الأرضَ‭ ‬لا‭ ‬يكفيها‭ ‬ما‭ ‬نالها‭ ‬من‭ ‬تلوثٍ‭ ‬متعددِ‭ ‬المصادر‭ ‬والأشكال‭ ‬حتى‭ ‬يغزوها‭ ‬تلوثٌ‭ ‬آخر،‭ ‬إِن‭ ‬لمْ‭ ‬يكنْ‭ ‬عارضاً،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬تمددَ‭ ‬واستعرض،‭ ‬بل‭ ‬أصبح‭ ‬ترنداً‭ ‬“وسمةً‭ ‬عامة‭ ‬تُوسمُ‭ ‬بها‭ ‬المجتمعات”‭ ‬المتحضرة‭ ‬زوراً‭ ‬وبهتانا،‭ ‬وكما‭ ‬الأشكالُ‭ ‬الأخرى‭ ‬للتلوث‭ ‬التي‭ ‬اِنبثقتْ‭ ‬من‭ ‬فوهةِ‭ ‬التقدم‭ ‬والحضارة‭ ‬والتطور‭ ‬التكنولوجي،‭ ‬ظهر‭ ‬التدخينُ‭ ‬كظاهرةٍ‭ ‬تدلُّ‭ ‬على‭ ‬الثراءِ‭ ‬حسبَ‭ ‬النوع‭ ‬المستخدمِ‭ ‬حيناً،‭ ‬والشجاعةِ‭ ‬والجرأة‭ ‬حيناً‭ ‬آخر،‭ ‬بل‭ ‬وباتَ‭ ‬الوسيلةَ‭ ‬المُثلى‭ ‬للتنفيس‭ ‬وإلقاءِ‭ ‬الهموم‭ ‬في‭ ‬نفثةٍ‭ ‬واحدة‭.‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬حِكراً‭ ‬بكل‭ ‬أنواعه‭ ‬على‭ ‬الرجل،‭ ‬إلا‭ ‬بعضَ‭ ‬أنواعِ‭ ‬التدخين‭ ‬التي‭ ‬اشتركَ‭ ‬فيها‭ ‬الرجلُ‭ ‬والمرأة‭ ‬منذ‭ ‬القدم،‭ ‬أصبحت‭ ‬المرأةُ‭ ‬أيضاً‭ ‬تُزاحمُ‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬مقاهي‭ ‬الشيشة‭ ‬وتتفاخرُ‭ ‬بنفثِ‭ ‬دخانِها‭ ‬في‭ ‬الأجواء،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬تُلازمُ‭ ‬منزلها‭ ‬وتدخن‭ ‬بين‭ ‬النسوة‭ ‬في‭ ‬خصوصيةٍ‭ ‬تامة‭. ‬لقد‭ ‬حان‭ ‬الوقتُ‭ ‬إذاً‭ ‬لنُلقي‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬ظاهرةٍ‭ ‬قديمة‭ ‬متجددة،‭ ‬لا‭ ‬جديد‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬أنَّ‭ ‬صبرَنا‭ ‬قد‭ ‬عِيلَ‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الظاهرة‭ ‬التي‭ ‬لمْ‭ ‬تترك‭ ‬لنا‭ ‬موطئ‭ ‬قدمٍ‭ ‬في‭ ‬المقاهي‭ ‬والمطاعم‭ ‬العامة،‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬بأغلبها‭ ‬تسترزقُ‭ ‬على‭ ‬خدماتِ‭ ‬المدخنين‭ ‬وتُفردُ‭ ‬لهم‭ ‬أفضلَ‭ ‬الأقسامِ‭ ‬بمقاهيها‭ ‬ومطاعمها،‭ ‬ولمْ‭ ‬يعُدْ‭ ‬للأسرِ‭ ‬مكان‭ ‬يجلسون‭ ‬فيه‭ ‬ليقضوا‭ ‬وقتاً‭ ‬ممتعاً‭ ‬أو‭ ‬يتناولوا‭ ‬وجبةً‭ ‬طيبة‭.‬

المدخنون‭ ‬باتوا‭ ‬يتمتعون‭ ‬بحقِ‭ ‬التدخين‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬المقاهي‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬الأماكنِ‭ ‬العامة‭ ‬والطائرات‭ ‬ومواقعِ‭ ‬الإنشاءات‭ ‬وبعض‭ ‬مواقع‭ ‬العمل‭ ‬الأخرى‭. ‬أغلبهم‭ ‬لا‭ ‬يُهمهم‭ ‬من‭ ‬يتواجدُ‭ ‬حولهم‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬ولا‭ ‬يراعونَ‭ ‬وجودَ‭ ‬أطفالٍ‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬أو‭ ‬كبارِ‭ ‬سن‭ ‬أو‭ ‬مرضى‭ ‬لا‭ ‬يستطيعون‭ ‬تحمُلَ‭ ‬سُحبِ‭ ‬الدُخان،‭ ‬ويعاني‭ ‬بعضُهم‭ ‬من‭ ‬ضيقٍ‭ ‬في‭ ‬التنفس‭ ‬وقد‭ ‬تُودي‭ ‬بحياتهم‭ ‬سيجارة‭. ‬حتى‭ ‬أنهم‭ ‬قد‭ ‬يُشعلون‭ ‬سيجاراتِهم‭ ‬وشيشاتِهم‭ ‬الإلكترونية‭ ‬في‭ ‬مراكز‭ ‬ألعابِ‭ ‬الأطفال‭ ‬المكتظةِ‭ ‬بالأبرياء‭ ‬الذين‭ ‬جاءوا‭ ‬للعبِ‭ ‬والمتعة‭ ‬لا‭ ‬للاختناقِ‭ ‬وتعلمِ‭ ‬سلوكٍ‭ ‬يتنافى‭ ‬مع‭ ‬السلوكاتِ‭ ‬التي‭ ‬علَّمها‭ ‬لهم‭ ‬آباؤهم‭. ‬وهنا‭ ‬أسألُ‭ ‬بعضَ‭ ‬المدخنين،‭ ‬أحقاً‭ ‬أنتم‭ ‬لا‭ ‬تستشعرونَ‭ ‬سخَطَ‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬حولكم،‭ ‬ولا‭ ‬تبالونَ‭ ‬بصحةِ‭ ‬الآخرين‭ ‬المتواجدين‭ ‬في‭ ‬البيئة‭ ‬التي‭ ‬لوثتموها،‭ ‬أمْ‭ ‬أنكم‭ ‬تُدركونَ‭ ‬ما‭ ‬تفعلون،‭ ‬لكنكم‭ ‬لا‭ ‬تهتمونَ‭ ‬إلا‭ ‬بمُتعتكم؟‭ ‬أعزائي‭ ‬المدخنين،‭ ‬لكم‭ ‬مطلقُ‭ ‬الحريةِ‭ ‬في‭ ‬التدخين‭ ‬طبعاً،‭ ‬“وإن‭ ‬ألقيتمْ‭ ‬بأيديكم‭ ‬للتهلُكة”،‭ ‬ولكنَّ‭ ‬حريتَكم‭ ‬هذه‭ ‬لا‭ ‬يجبُ‭ ‬أن‭ ‬تعتدي‭ ‬على‭ ‬حرياتِ‭ ‬الآخرين،‭ ‬فتحرِمَهم‭ ‬من‭ ‬الاستمتاعِ‭ ‬والخروج‭ ‬والتنزهِ‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬العامة‭ ‬المفتوحةِ‭ ‬أو‭ ‬المغلقة‭. ‬وأخيراً‭ ‬أقول،‭ ‬أيحقُ‭ ‬لكم‭ ‬إلحاقُ‭ ‬الأذى‭ ‬بالآخرين‭ ‬الذين‭ ‬يُدخنونَ‭ ‬معكم‭ ‬بالرغمِ‭ ‬منهم‭ ‬لا‭ ‬بالرضا،‭ ‬ويستنشقونَ‭ ‬غماماتِ‭ ‬السُمِّ‭ ‬الذي‭ ‬تنفثون،‭ ‬وهل‭ ‬سكوتُ‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬حولكم‭ ‬يُحِلُّ‭ ‬لكم‭ ‬انتهاككم‭ ‬حرياتهم‭ ‬وإضراركم‭ ‬بصحتهم؟‭ ‬ومتى‭ ‬يُعلَّقُ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬قسمٍ‭ ‬مخصصٍ‭ ‬للتدخين‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬التي‭ ‬تُجبرُ‭ ‬شركات‭ ‬الدخانِ‭ ‬على‭ ‬نشرها،‭ ‬ولا‭ ‬تُجبرُ‭ ‬بؤرُ‭ ‬التدخينِ‭ ‬على‭ ‬تعليقها‭: ‬“تحذير‭ ‬حكومي‭: ‬التدخين‭ ‬سببٌ‭ ‬رئيسي‭ ‬في‭ ‬الإصابة‭ ‬بسرطانِ‭ ‬الرئة‭ ‬وأمراضِ‭ ‬القلب‭ ‬وتصلبِ‭ ‬الشرايين‭ ‬والسكتة‭ ‬الدماغية”‭.‬